علي حسن حسون
كانت أجواء جزيرة العرب عام 570 للميلاد مضطربة جداً، تعصف بها العصبية القبلية، وتستعر فيها النعرات العنصرية، ويغشاها التعالي المقيت على من لا يملك قوت يومه. وكان التمايز الطبقي صارخاً؛ فأصحاب البشرة السوداء يُستعبدون ويباعون كما تباع السلع، بصكٍ جائر وثمن بخس. ولم يتوقف الانحطاط عند هذا المشهد المظلم، بل تجاوز إلى المرأة، نصف المجتمع ومصدر الحياة، فكانت تُهان وتُستَحقر، حتى إذا بُشِّر أحدهم بالأنثى اسودّ وجهه، وتوارى عن أعين الناس كأنما أصابته لعنة.
وبعضهم كان يُبقي ابنته على قيد الحياة بوجهٍ مسودّ، يحيطها بالامتعاض والجفاء، وكأنها عبء ثقيل، فيما مضى آخرون إلى أبشع من ذلك، فيوارون صغيرتهم تحت التراب، بينما يداها الناعمتان تزيحان الغبار عن لحيته، علّها تستعطف قلباً قاسياً قد تحجّر وتجرد من كل معنى للرحمة. فبراءة الطفولة وحنانها الصافي كانت تصطدم بقسوة أبٍ صلف متعجرف لا مكان للإنسانية في كيانه. والأدهى من ذلك أن أهل الوادي كانوا يتفاخرون بهذه الأعراف، يعدّونها موروثاً لا يُمس، ناهيك عن معاقرة الخمور وهتك الأعراض، حتى غدت الحياة آنذاك أشبه بحياة الغاب.
وفي العام نفسه، وُلد طفلٌ يتيم في وادٍ غير ذي زرع، في قلب الجزيرة العربية، ليكون ميلاده أعظم حدث شهده التاريخ. جاء إلى الدنيا محمّلاً بنور الله تعالى، مهيّأً برسالة خالدة تحمل سرّ الهداية، وقد قُدّر له أن يبدّد دياجير الظلام، وينير القلوب قبل الدروب.
وفي ثلاثةٍ وستين عاماً مضت كالبرق المضيء في ليلٍ حالك، رفع أمةً غارقة في الجهل والظلم، من حضيض الاستعباد إلى رحابة العدل والحرية، ومن غياهب العصبية والفرقة إلى نور الوحدة والإيمان. فجاءت رسالته رحمةً للعالمين، وتحوّلت كلماته إلى مشاعل تهدي القلوب وتغرس في النفوس قيماً سامية ما زالت تنير مسيرة الإنسانية إلى يوم الدين.
فكان ميلاد الحبيب الأقدس والنبي الخاتم محمد بن عبدالله صلى الله عليه وآله وسلم فجراً جديداً أشرقت به الأرض بعد طول ظلام، ومعه تغيّر وجه التاريخ، وارتسمت للبشرية ملامح عهدٍ يقوم على الرحمة والعدل والكرامة، لا على القهر والاستعباد.
واليوم، وقد مضت ألف وخمسمائة عام على مولده الشريف، لا ينبغي لنا أن نمرّ على هذه الذكرى مرور الكرام. فهي ليست مجرد مناسبة زمنية عابرة، بل حياة تتجدد ونور يتوهج فينا وعندما يجتمع المسلمون لإحيائها، فإنهم لا يبتدعون احتفالاً، بل يواصلون سيرةً لم ولن تنقطع أبداً.
إننا أحوج ما نكون اليوم إلى ذكره صلى الله عليه وسلم؛ فحياتنا لا تستقيم إلا بالاقتداء بنوره، وقلوبنا لا تطمئن إلا بمحبة شخصه، وأيامنا لا تزهو إلا بسيرته العطرة. فنحن لا نُحيي المولد ليُذكر النبي بيننا، بل لأننا نحيا به، نستمد من سيرته معنى الرحمة والهداية، ونجدّد عبر ذكراه العهد مع الله أن نسير على خطاه.
فمولده صلى الله عليه وسلم ليس احتفالاً زمنياً يُقام وينقضي، بل هو مدرسة إيمانية باقية، تغرس فينا القيم، وتوقظ فينا الضمائر، وتملأ دروبنا بالنور إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.