عبدالعزيز بن عليان العنيزان
عندما تسعى دولة إلى تعزيز مكانتها الدولية ورفع مستوى حضورها على الخارطة السياسية العالمية، تكمن غايتها في أن تكون قوة إقليمية ودولية بارزة في ميزان القوى العالمي، لها قيمتها وهيبتها بين الأمم والشعوب. ويقتضي هذا المشروع الرائد وجود خطة محددة يتم تشكيلها بأسلوب بارع من قبل أجهزة الدولة السيادية، مع أهمية تطبيق آلياتها وخطواتها باتباع الأدوات الدبلوماسية التقليدية والحديثة بشتى الأنماط والوسائل.
بمعنى آخر هناك ضرورة ملحة لأن يتوفر لدى الدولة مؤسسة دبلوماسية متكاملة ومتنوعة تمتاز بالمقومات التامة لبناء توجهاتها الخارجية ضمن بيئة النظام الدولي. ويتلوها إثبات مقدرتها الدبلوماسية على تطبيق مرتكزات هذه السياسة الخارجية بشكل فعال، لضمان تحقيق مخرجات مؤثرة دوليا وإنجاز أكبر قدر من المنافع والمكاسب.
وهناك أمثلة واقعية على أن الدبلوماسية الناجحة أداة تقييم ومقياس لمكانة الدولة عالميا، أبرزها دبلوماسية واشنطن والكفاءة العالية لسفاراتها في تنفيذ الأجندة الوطنية من خلال دبلوماسية تقليدية متميزة في التواصل مع الحكومات والمسؤولين المحليين ومناقشة ومتابعة كافة التطورات الداخلية ونقل وجهة نظر واشنطن حيالها بشكل دوري. وفي نفس الوقت التغلغل في المجتمعات وتحقيق التواصل الشعبوي مع مختلف شرائح وفئات المجتمع بأدوات الدبلوماسية العامة الحديثة.
كذلك لا تقتصر على هذه الأشكال بل تحتضن سفاراتها للعمل الاستخباراتي المنوط بمهام حساسة في سياستها الخارجية، فلا بد من أن تكون على دراية ويقظة لكافة المجريات والأحداث المحيطة بنطاقها الجغرافي. فواشنطن توصلت إلى نهوج دبلوماسية متقدمة استطاعت من خلالها ممارسة العلاقات الخارجية بإتقان وإنفاذ المصلحة العظمى لها المتمثلة بالهيمنة الأمريكية على الساحة الدولية.
بينما توصلت واشنطن لهذا المستوى المتقدم لا نغفل عن تجارب ناجحة لدول أخرى في تقديم أساليبها الخاصة للدبلوماسية المتميزة، وقد فرضت نماذج مختلفة لتأدية سياستها الخارجية وفق ما تصبو إليه أجندتها المتكيفة مع العوامل والظروف المحيطة بها، حيث إن دبلوماسية دول الشرق الأقصى يشهد لها بالنجاح الباهر في تعظيم المنفعة الاقتصادية من علاقاتها الثنائية وأنشطتها الخارجية في النسق الدولي.
ونشير هنا إلى نجاح الدبلوماسية الصينية في مساهمتها بتحقيق النمو الاقتصادي الهائل في معدلات الناتج المحلي الإجمالي، فهي تقوم بدور أساسي لدعم الصناعات الوطنية والترويج للمنتوجات والاختراعات والابتكارات أينما تحل بعثات بكين الدبلوماسية، مع نهج واضح بأولوية دمج المصالح الاقتصادية والعسكرية لتحقيق التوسع خارجيا بنمط فريد في السياسة الدولية المعاصرة، وقد وثقته السياسة الخارجية الصينية بتنفيذها للعديد من الخطط والمشاريع النابعة من مبادرة الحزام والطريق في غضون سنوات قليلة.
وفي ذات السياق فإن تجربة أوروبا عتيقة في الشؤون الدبلوماسية ودولها تمتلك نماذج متنوعة في تعزيز التمثيل الدبلوماسي وتصريف شؤونها الخارجية. نذكر هنا الدبلوماسية السويسرية المختلفة نوعيا بتركيزها على الجوانب الثقافية بشكل واسع، ونجد بعض سفاراتها كأنها صالة عرض للفنون التشكيلية والبصرية وإقامة الندوات الثقافية.
بالطبع تعتبر هذه رمزية على النهج المتبع في سياستها الخارجية المراد به الترويج للثقافة والفنون والسياحة، ورفع مستوى التبادل الثقافي مع البلد المضيف بصورة مميزة لنيل مصلحتها وفقا لهذه المقومات الجذابة، ولا سيما مع حرص دبلوماسيتها على إقامة معارض فنية لأعمال مشتركة بين فنانين سويسريين ومحليين للتعبير عن دعمها وتبنيها لمختلف الفنون المعاصرة.
وعلى امتداد الخط الساحلي لبحر الشمال نجد الإسكندنافيين الذين نلتمس في سلوكهم الدبلوماسي حرصهم على الظهور بدعاة لحقوق الإنسان وفض النزاعات والوساطة بين الأمم المتحاربة. في الحقيقة هذه المبادئ تكونت عبر مناداة مؤسسات المجتمع المدني انعكاساً لاستمرار تدفق اللاجئين إلى دول الشمال في العقود الأخيرة، لكنها سرعان ما تحولت إلى ركائز مهمة في سياستها الخارجية تخول ممثليها من أخذ زمام المبادرة في المناقشة والتفاوض بالمواضيع الإنسانية، وإجراء سفاراتها لندوات وملتقيات حقوقية من منطلقات وطنية.
في النهاية هذه الأمثلة من النماذج والأساليب للممارسات الدبلوماسية هي الفرصة الحقيقية للدولة لإحراز التمدد والتوسع في الخارج، بناء على ما تقتضيه أفكارها ورؤيتها للغاية الوطنية من التفاعل في النظام الدولي، بالإضافة إلى أنها تدعو إلى أهمية رسم السياسة الخارجية بحذر وفطنة وتحديد المبتغى الحقيقي منها بشفافية بين صانعيها، والاعتماد على التقييم المستمر لمدى فعالية تطبيق نهجها الدبلوماسي عبر تحليل نتائج مخرجاتها من وقت لآخر.