فائز بن سلمان الحمدي
{إنا لله وإنا إليه راجعون}
لقد هوى على القلوب خبرٌ كالسيف القاطع، وأظلّت الأرواح غمامةٌ من حزنٍ كئيب، إذ ودّعت الأمةُ رُكنًا من أركانها، وعَلَمًا من أعلامها، وشيخًا جليلاً أفنى عمره في خدمة الشريعة وتعليم الناس وإرشادهم، سماحةَ المفتي الشيخ عبدالعزيز بن عبدالله آل الشيخ، رحمه الله وغفر له وأسكنه فسيح جناته.
لقد كان العلماء ولا يزالون مصابيح الأرض ومصادر النور واليقين، بهم تُستنار السبل وتُصان العقائد، وبهم تحفظ الشريعة من التبديل والضياع، فإذا مضى واحدٌ منهم انطفأ كوكب من كواكب الهداية، غير أنّ أثره يظل باقياً في صدور الرجال وفي تراث الفقه والفتاوى ومواقف النصح والبيان.
لقد قضى الشيخ عمرًا طويلًا في محراب الفتيا، يتنقّل بين حلقات العلم ومنابر البيان ومجالس الإفتاء، لا يملّ ولا يكلّ، يجيب السائلين ويهدي الحائرين ويذكّر الأمة بما يثبّت الدين ويحفظ الجماعة.
كان ثابتًا على الحق، واضح المنهج، راسخ القدم على السنة، قريبًا من الناس، سمحًا في معاملته، مهيب الطلعة، فيه وقار العلماء وسكينة المتقين، وما أكثر ما رفع يديه بالدعاء في الملمات، يضرع إلى الله أن يحفظ البلاد والعباد. ولقد عُرف -رحمه الله- بجلاء المنهج ووضوح الرؤية في باب السمع والطاعة، فكان صوته صوت السلف، يصدع بالحق المبين، ويذكّر الأمة بأنّ لزوم الجماعة أصل الدين، وأنّ الاجتماع على ولاة الأمر حِرزٌ من الفتن، وسدٌّ لباب الشرور، وصيانة للوطن والملة.
كان -رحمه الله- كالسارية الراسخة في ليلٍ مدلهمّ، يهتدي بها الحائرون، ويستضيء بنورها المخلصون، وكان كالسدّ المنيع في وجه دعاة التفرقة والفتنة، لا يلين ولا ينثني، يردّ عن الأمة سهام المضللين، ويحفظ للبلاد أمنها ووحدتها، فما انفكّ في خطبه وبياناته يربط القلوب بقيادتها، ويحثّ على الطاعة في المعروف، محذّرًا من شقّ العصا وإثارة الفتن، مؤكّدًا أنّ في طاعة ولاة الأمر عزّ الأمة، وفي اجتماع الكلمة حفظ الدين والدنيا، مقتفيًا في ذلك أثر السلف الصالح، الذين عدّوا السمع والطاعة ركناً من أركان الجماعة وسببًا لدوام النعمة وحقن الدماء.
وما كان منهجه في هذا الباب إلّا أنموذجًا ناصعًا في لزوم جماعة المسلمين، وجمع الكلمة على ولاة أمرهم، والدعاء لهم، وتثبيت القلوب على الطاعة في المعروف؛ فقد عُرف -رحمه الله- بوضوح المنهج مع القيادة، ناصحًا أمينًا، مقرّبًا القلوب إليهم، داعيًا الأمة للاجتماع وعدم التفرّق، مستمسكًا بما كان عليه سلف هذه الأمة من البيعة والوفاء والسمع والطاعة، إذ فيها عصمة الجماعة وصيانة الوطن، وفيها الأمن والدين، وفيها بقاء الشريعة واستمرار الدعوة. لقد كان الشيخ يرى في ولاة الأمر عضدًا للعلم والعلماء، فبادلهم الوفاء بالوفاء، والمحبّة بالنصح، والولاء بالدعاء.
ورحيله شاهدٌ على سنّة الله الماضية في عباده: {وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ}، فدوام الحال محال، والموت حق على العالم والجاهل، غير أنّ فَقْدُ العلماءِ ليس كفقد سائر الناس، فهم الذين برحيلهم تُطوى صحائف من العلم وتُرفع معالم من الهداية. وقد صدق المصطفى -صلى الله عليه وسلم- إذ قال: «إن الله لا يقبض العلم انتزاعًا ينتزعه من الناس، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء» ، فما أشد خسارة الأمة اليوم، وما أعظم الحاجة إلى من ينهض بحمل اللواء بعدهم. لقد عاش سماحة الشيخ لصيقًا بالناس في هذه البلاد المباركة، يعرفه الكبير والصغير، وتستأنس الأسر السعودية بفتاواه في حياتها اليومية، وتطمئن القلوب إلى صوته إذا نزلت الملمات. كان أبًا ناصحًا للوطن، وعضدًا للقيادة، ومعلّمًا للأجيال، حتى غدا حضوره جزءًا من ذاكرة المجتمع السعودي ووجدانه.
وفي هذا المصاب الجلل نتقدّم بأحرّ التعازي وأصدق المواساة إلى مقام خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز آل سعود، وإلى صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سلمان بن عبدالعزيز ولي العهد رئيس مجلس الوزراء ـ حفظهما الله ـ سائلين المولى أن يجزيهما خير الجزاء على رعايتهما للعلم والعلماء، كما نعزّي أسرة الشيخ الكريمة وطلابه ومحبيه وسائر أبناء الوطن، بل وأبناء الأمة الإسلامية جمعاء، بهذا الفقد الأليم. غير أنّ عزاءنا الأكبر أن الشيخ قد مضى وقد ترك إرثًا علميًا باقياً، وذكرًا طيبًا في القلوب، ودعاءً صادقًا يلهج به محبّوه وطلابه، فرحمة الله عليه رحمةً واسعة، وجزاه عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء، وجعل ما قدّم من علم وفتوى ونصح للأمة في موازين حسناته، وألحقه بركب النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وحسن أولئك رفيقًا.
سلامٌ على الشيخ في مرقده، وسلامٌ على سيرته في سجلّ الخلود، وسلامٌ على علمٍ أضاء الأمة عقودًا طويلة.
{إنا لله وإنا إليه راجعون}.