د. محمد بن إبراهيم الملحم
مع احتفالنا باليوم الوطني الخامس والتسعين، تتجدد مسؤولية الأسرة في ترسيخ الانتماء للوطن، وصون رموزه، وتحويل القيم الوطنية إلى سلوكٍ مستدام يرافق الأبناء داخل البيت وخارجه، وكذلك في العالم الواقعي والرقمي على حدٍّ سواء. ولو تساءلنا لماذا تبدأ الهوية الوطنية من الأسرة فلا أظن أن الجواب يحتاج فيه أي أحد منا إلى مزيد جهد من التفكير، فالأسرة هي المربي الأول وهي موطن الأمن والأمان لدى الطفل وهي أساس تكوين لغته التي يتكلم بها ويتواصل مع الآخرين وهو ما يجعل نظرته لها عميقة في ثقته بما تقدمه له من معرفة وقيم، والأسرة فيها القدوة اليومية، حيث يرى الأبناء في سلوك والديهم مرآةً لكل القيم التي يفترضوا أن يكتسبوها، وأهمها الدين وحب الله وفهم واجباته نحوه ليكون إنساناً متوازناً، ثم ما الذي يعنيه الوطن ولماذا ينبغي حبه واحترام نظمه والقيام بخدمته، وتُعدّ الأسرة «المدرسة الأولى» التي تتشكَّل فيها شخصية الأبناء واتجاهاتهم، ومنها تتجذَّر الهوية الوطنية وتُمارَس القيم في تفاصيل الحياة اليومية.
إن أهم القيم الوطنية التي تعزِّزها الأسرة هي الولاء والانتماء ويتمثَّل ذلك في تأسيس فهم وتقدير العَلَم والنشيد الوطني ثم احترام الأنظمة العامة واستيعاب دورها في وقوف كل شخص عند حدود تكفل المساواة للجميع، وكذلك الحرص على صورة الوطن داخل وخارج المنصَّات الرقمية. ومن القيم الوطنية أيضاً المسؤولية واحترام النظام والتي يمثّلهما الالتزام بقواعد السلامة والمرور، والمحافظة على الممتلكات العامة وفهم أن في التقيد بهذه الأمور صيانة مجتمع الوطن ومكوناته التي يقدمها للمواطنين. ومن القيم الإتقان والنزاهة والتي تتمثَّل في أداء الواجبات الدراسية والعملية بإخلاص، والبعد عن الغش والتحايل، ومن القيم الوطنية الخدمة والعطاء متمثلة في المبادرة للتطوع، ومساعدة الجيران وكبار السن، والمشاركات المجتمعية، ومن القيم أيضاً الحفاظ على اللغة والثقافة وتتمثَّل في إحياء العربية في الحديث والقراءة، وكذلك من القيم الاحتفاء بالموروث المحلي من أزياء وفنون وأطعمة أصيلة ومن القيم حماية البيئة من خلال ترشيد الاستهلاك، وفرز النفايات، واحترام المساحات الطبيعية وعدم إتلافها أو سوء استخدامها.
ويمكن تلخيص الأدوار العملية للأبناء بحسب المرحلة العمرية كالتالي ففي الطفولة المبكرة (4 إلى 6 سنوات) يكون ذلك بتقديم قصص مبسطة عن تأسيس الدولة، وتلوين العَلَم، وحفظ أناشيد وطنية، وألعاب تعلّم المشاركة والالتزام بالدور. وفي المرحلة الابتدائية (7 إلى 12 سنة) يمكن أن يكون ذلك من خلال رحلات عائلية لمتاحف ومعارض تراثية، وقراءة سِيَر رواد وطنيين بلغة مبسطة، وعمل دفتر «مواقف وطنية» يسجل فيه الطفل مواقف التزم هو فيها بالنظام أو خدم فيها غيره، وفي المرحلة المتوسطة (12-15 سنة) فيكون ذلك من خلال حوارات نقدية بنّاءة حول الأخبار، تدريب على المواطنة الرقمية (التحقق من المصادر، الخطاب يكون مهذّباً، مكافحة الشائعات)، وكذلك ساعات التطوع العائلية، وزيارات لمؤسسات وطنية (جامعات، مراكز ابتكار)، وكذلك تشجيع المشاركة في الأندية الكشفية، والبرامج التطوعية، والأنشطة التراثية.
ويمكن التفكير في الأنشطة التالية المتنوعة والتي يمكن أن يتم تنفيذها لكل الفئات تقريباً فهناك مثلاً جلسة رفع العلم العائلية ويكون فيها تعلّم آداب العَلَم والنشيد، ومعناهما، أو قصة التأسيس يقدمها أحد الوالدين: مع أسئلة تحفِّز التفكير: ماذا تعلَّمنا؟ وكيف نخدم وطننا اليوم؟ كذلك عمل جولة محلية قصيرة بزيارة معلم تاريخي مثلاً أو متحف أو فعالية وطنية قريبة، وهناك فكرة مشروع عطاء صغير والذي يتم فيه تنظيف مساحة عامة، أو عمل صندوق تبرَّع عائلي، أو إعداد وجبات لمبادرة خيرية.
أخيراً هناك أخطاء ينبغي تجنّبها أهمها تحويل القيم إلى وعظٍ مجرد دون ممارسة عملية واضحة من الوالدين، وينبغي للوالدين أن يغتنما أي فرصة لتقديم قدوة لأبنائهما في هذا الأمر، بل ربما يخترعان بعض المواقف ليقدما من خلالها مثلاً وقدوة حسنة يشهدها أطفالهما أو أبناؤهما الكبار. وثانياً هناك خطأ الاكتفاء بالاحتفال الشكلي (أزياء وأناشيد) دون ربطه بمعنى الخدمة والمسؤولية وقيمة الوطن، ولا شك أن استحضار حالة من فقدوا أوطانهم وعاشوا في غربة يقدم تصوراً أوضح لقيمة الوطن، بل ربما يمثِّل مشاهدة بعض الأفلام الشيقة والملهمة والتي تدور حول هذا المعنى وسيلة فعَّالة لتعميق فكرة قيمة الوطن. ومن الأخطاء أيضاً التهوين من المخالفات البسيطة للنظام أمام الأبناء («كل الناس تفعل ذلك»)؛ فذلك مما يهدم احترام النظام ويقوِّض قيمة الوطن في نفوس الأبناء، ومن الأخطاء إهمال اللغة العربية داخل البيت لصالح اللغة الأجنبية على الدوام؛ فاللغة وعاء الهوية ولا ينبغي التفريط فيها والفخر بغيرها فإن سياسات التعليم التي قررتها اليونسكو توصي بوضوح بترسيخ لغة الأم في السنوات المبكرة ثم التوسّع المنظّم في اللغات الإضافية؛ حفاظًا على الهوية وتحسين التحصيل معًا وقد حلل Frantz Fanon علاقة اللغة بالاستلاب الحضاري ذاكراً أن لغة المستعمِر قد تُعيد تشكيل الذات وتُولّد شعور الدونية أو الارتياب بالذات إن أصبحت بديلاً لهوية اللسان الأم.
إن تعزيز الهوية الوطنية لا يحدث في يومٍ واحد، بل هو «عادةٌ عائلية» تُجَدَّد كل يوم: كلمة صادقة، قدوة حسنة، احترام للنظام، عمل متقن، وخدمة للناس والبيئة. حين يرى الأبناء هذه القيم في بيوتهم، تتحول المناسبات الوطنية ومنها اليوم الوطني الـ95 من ذكرى عابرة إلى مشروع تربيةٍ وطنية مستمرة تصنع المواطن الواعي القادر على المساهمة في حاضر المملكة ومستقبلها.