عبدالمحسن بن علي المطلق
قبيل أيام بَدْء عام (دراسي)، أو لنقلْ موسم للبذر حلّ، ودبّ بدولاب الحياة حياة حين تجدد فيه النشاط، لتتبدد عن سمائنا سحائب الخمول، فجلب ذاك -البدء- لوافح أفاقت ذكريات سلفت، من بيننا من يظنّ أنها طُويت، أبداً ليست كذلك، لأن سُكنى تلكم -الذكريات- في سويداء الأفئدة..
والبَدء هذا مغرٍ، لأن فيه من مشاهد لـ(زغب الحواصل) -رحم الله الحطيئة-.. وهي تُصبح دروبنا، فيما وجهتها تلقاء مصانع المستقبل - دور التعليم - هممن بالرواح، ولا غرابة من تباريح ما نُمطرها من حبيبات زهوٍ بها، لأنها الألق الجديد، والأمل القادم، وكفى ذاك من منظر يُفيق من تلبّسه الوهن، أو مُلالة الحياة.. ما عسى يغريه، أجل، فكم من خاملٍ أيقظه عامل ولو «غيرة» أن يحاكيه، مصداقاً لآية {وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الْأَرْضُ} 251 البقرة، ونلاحظ (لفسدت) أي إن لم يحدث هذا - التدافع-، أيضاً ما يُحدث ذاك من تطاول (من يُنجز أكثر)؟، فيصبّ إنتاج الجميع في إناء (بناء)الحياة، وبالتالي عمار الكون، الذي -بالمناسبة- هو ثالث ثلاثة أسبابٍ للخلق (.. عبادة الله، ثم خلافته في الأرض، فاستعمارها)، أيضاً أدعى أن تلفى روح العطاء مُقدمة وهي مُفعمة بحماس كل معطاء..
و.. لئن كان كلّ صباح تُشرق شمسه هو من الله نعمة، ومنّ علينا، فما البال وإشراق عام يَنشر أريجه على جنبات مفاوز العمر، وكذا الشأن ما تُلهمه -والله أعلم - تلك الصور في داخلنا من مناشط خفي الإقرار بها، والمثلات على هذا لا تكاد تحصى، كما وأن بذاك (البَدْء) حراك لأوتار القلب، ما لا نعجب مما منه يُطرب، منغّما بأوتار حياتنا، ثم يثير نقعه أو يثريها عن تساؤل:
أتُرى ما فيها من (مستدعيات) هنّ من تأخذ بتلابيب عزفنا.. ونحن أعني «ولاة الأمور» نرقب بلحاظ اختلطت بهنّ المشاعر والمفاخر -معاً - في تتبّعٍ خطى صغارنا وهي تُرعى من قِبل أفئدتنا قبل العيون، وحقّ العبير لأحادنا لو أثرى لفلذّة كبده/
إن لم تكن أنتَ العيون
فإنك أعزّ من نظرت إليه
أجل ليس بكثير إن قُلنا أعزّ، لأنهم الخلف الذي سيحمل الراية، ما لا تُحمل على مبالغة ما تنبري منّا تعابير هي نافرةً عن امتزاج افتخار لم نسطع لها احتباسا، وبإثر ذاك المسير مشيّعه يتبختر منقباً عن مضمور استفهام هل لأن الفُجج هذه (سبق) من سالف دنيانا غشيناها..هي السبب؟، وما كان من حال والدينا يومئذ وهو يُحاكي حالنا اليوم، وكيف هو تفاعلنا بتلك المشاهد؟، فرحم الله من أمسى تحت الثرى، ورزقنا برّا و(روافاً) بمن تنتشي حبوراً بحضوره حياتنا، ثم إن لقطات صغارنا تلك لكأنها نبّهت من أخذته المشاغل، لتجلو -له- عن النقاء الذي انضوى داخلنا مما أصابه من أوصاب-أثقال -الحياة، أو ماج في شوائب معتركها ما لا يسلم منه حتى أهل الرزانة، إذ نابهم من معرّتها نصيب!، ففي لقطة تقشّر عن عصا مرادي للداعية «فتحي الصافي».. -رحمه الله- يوم غضب من أحدهم، فقيل له: معقول!، وأنت شيخ؟ - يقصد قدوة-، فأجابه (أنا شيخ بالمسجد، أما في السوق ف.. مثلي مثلك)، وهذا -والله أعلم- تحقيقاً لآية {لَقدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي كَبَدٍ}، قال بعض أهل التأويل «لقد خلقنا ابن آدم في شدّة وعناء ونصب..».
وعلى طاري (الصفاء) الذي كان وما عرفنا يومها قدره، فها هو جيلي لا زال يذكر ليوم السبت، وكان أوّل الدوام، لا..كان اليوم إجازة، من ثقلٍ لم يتسنّ فرادنا وقد وطئ ذاك، لأنه بصراحة مُتجذّر في خلدنا، فلا تسأل الطلاب عنه، فمن لم يبك، أشكّ به إن لم يشك!، معتذراً هنا إن حوت أسطري نقض جُرح.. يُتخيّل - لا حقيقةً-مع عجلة الحياة قد اندمل!، نعم ماديّا، لكنه معنويّا هيهات هيهات -التكرار مقصود لغرض وعي الدلالة -
وحسبكم للآن آثاره لا زال يرنّ إحداها في ناقوس نسياننا فيُفيق (لكم اللحم ولنا العظم)!
فمع أدنى طرف من ذكرى إلا ويُبعث من سباته لما داخلنا!، فتلكمُ لقطة مما كان على كاهل الطالب.
.. أما «المعلّم» فلا تتطقّس عن التبعات الثقال في إيصال المهنة ذاتها، وحسب ما أفشى عنه أحد سدنتها المشهور مكانهُ بين أقطابهم، بل الأثير لدى أخدانه «إبراهيم طوقان» -ت1360 هـ -رحمه الله- بنظمٍ نفش عما في المكنون من (مخزون) ما يُقاسيه من اتّخذ من سلك التعليم له عملاً، بأبيات جمع فيها أوجاع المهنة، عدا ما أودع من»سلح» كأنما وجهه لأحمد شوقي.. وكان قد أنشأ -هذا الأخير-:
قُم للمعلم وفِّهِ التبجيلا
كاد المعلم أن يكون رسولا
أعلمت أشرف أو أجلّ من الذي
يبني وينشئ أنفسا وعقولاً
.. إلخ، مع ملحظ استشكله بعضهم في مبالغة شوقي.. رحمه الله- بتشبيه المعلّم بالرسول، مهما بلغ المعلّم!، فمن بيت نُسب للمتنبي- وهناك من يُلحقه لعنترة-:
ألم تر أن السيف يُنقص قدره
إذا قيل «السيف أمضى من العصا»!
فأتى التعذير لشوقي..
سنداً أن {حقيقة الرسالة والنبوة، التي بُعث بها الأنبياء، وخُتم بمحمد -صلى الله عليه وسلم-، فإن هذا لا دخل فيه لسعي العبد، بل هي اجتباء واصطفاء من الله جل جلاله، للمكرّمين من خلقه، وهي قد ختمت، ولم يبق أحد ينالها، أو يطمع فيها.
وإنما المعلّم - هنا -: رسول بالمعنى المجازي، لأنه يحمل رسالة العلم والأخلاق، وكل من يحمل هذه الرسالة فهو رسول بهذا المعنى}- يُراجع بتصرف موقع»الإسلام سؤال وجواب»، السؤال: 249355 -.
للعلم لو أخذنا بهذا القياس اللغوي الصرف، سوف نجد ألفاظا من مثل حديث.. وهو ضدّ القديم، فأوقف المراد بالنصّ النبوي طُرّا، أو الفقه ففي اللغة (الفهم) العميق.. إلخ
فصدّر - طوقان - مُعارضاً ب/
شوقي يقول.. وما درى بمصيبتي
قم للمعلّم وفّه التبجيلا
اقعد فديتك هل يكون مبجلاً
من كان للنشء الصغار خليلاً!
بل وزاد/
لو جرّب التعليم شوقي ساعةً
لقضى الحياة (شقاوةً.. وخُمولاً).
إلخ، إشارة حول المعارضة في الشعر، وهي «فن أدبي يتم فيه قيام شاعر بنظم قصيدة لمحاكاة قصيدة أخرى لشاعر سبق له أن نظمها، مع الالتزام التام بالوزن والقافية والموضوع الأصليين، بهدف التفوق على القصيدة النموذج أو مجاراتها في البراعة الفنية والجمالية» منقول..
لأقول ما قلت.. كـ(إطلالة) لعام دراسي (عجلته) قبيل أيام شرعت إيذانا لبذر موسم جديد أزف، فهذا كافٍ أن يجعل الحركة بالمنزل، وقد دبت بها الحياة على أهبّتها..مسايرةً
ختامٌ مهم
يُعلم وكما المعتاد من بني آدم أن يصحب كل جديد منه شرّة نشاط، ثم شيئا فشيئا يتلاشى غالب ذلك المنشط، نعم أحايين يخفت ضوؤه لكنه لا ينطفئ، أو يتوقف دون محطة التحصيل، قطف (ثمار) ما كان من بذل جُهد.. تحديداً..
وحسب هذا الطارئ السالف كله يكون (داعٍ) يُعيدنا للمربّع الأوّل، ومع هذا - الأوّل- علينا أن نُقرّ أن لا عزاءً لمن لا يُسلّم بأن..الحبّ (فقط) للحبيب الأوّلِ.