د. عبدالحق عزوزي
في أدبيات العلاقات الدولية والإستراتيجية، هناك إجماع على أنه يجب على الفاعلين الرئيسيين في مجال الشأن العام أن يكونوا مدرَّبين على ضرورة التيقن في التخطيط من خلال معطيات حياتهم المهنية، خلافاً لمجال الإستراتيجية المبنية على بُعد نظر في بيئة معقدة ويطبعها الشك وعدم اليقين؛ وعلى المخطط أن يكون علمياً في مقارباته، ومفاهيمه، وتطبيقاته، بينما على الإستراتيجي أن يكون أكثر عمومية. وإذا قام المخطط أثناء التنفيذ بربط مفاهيمه مع تلك المتعلقة بالإستراتيجي (مع أن الخطة ناجحة)، فإن التأثيرات الإستراتيجية الناجمة عن دعم مثل هذا التصور، قد تفشل، وقد يكون لها مفعول عكسي. وعلى المفكر الإستراتيجي أن يكون صاحب قدرة كبيرة على تطبيق نظرية الإستراتيجية في العالم الواقعي، وأن يجمع بين مجالي الفن والعلم، وضرورة خلق توليفة تجمع حسابات التقلب، والتوجس، والتعقيد، والغموض، التي تطبع البيئة الدولية الحالية، أو لنقل البيئة الإستراتيجية.
ولا جرم أن التفكير الإستراتيجي هو شغل العديد من المراكز البحثية التي تقوم بنجاح بهذا العمل لما تتوفر عليه من موارد بشرية وتكوينات تعطي لأبحاثها نتائج ومردودية لا تتصور. وفي هذا الجانب يميز الباحث كارول ويس (Carol Weiss) بين أربعة أنواع من مراكز الأبحاث الموجودة هنا وهناك:
- «جامعات دون طلبة»، مثل مؤسسة كارنيغي للسلام الدولي ومعهد العلاقات الدولية والإستراتيجية (IRIS) وهي تستعين بباحثين من حملة شهادة الدكتوراه وبمتخصصين في مجالات دقيقة، يطالَبون بإنجاز دراسات وفق الشروط والمعايير الأكاديمية والعلمية.
- مراكز أبحاث تعمل على بلورة دراسات جادة تطلبها منها مؤسسات عمومية، كمجموعة راند كوروبوريشن (Rand Corporation).
- مراكز أبحاث ذات قضية محددة تدافع عنها (Advocacy Thinks Tanks) وهي مؤسسات تنتج أعمالاً وتطور أفكاراً ذات صلة بالمبادئ والقيم التي تحاول الدفاع عنها.
- مراكز الأبحاث اللصيقة بالمؤسسات السياسية على الرغم من أنها دائماً تسعى لإبقاء قدر من الاستقلالية حفاظاً على النزعة العلمية لدى الباحثين المنضوين تحت لوائها.
وهناك مجموعة من العوامل أسهمت في نشأة عدد المراكز البحثية في العديد من الدول وزيادتها.. فالسياسات العمومية أصبحت مُعَوْلَمة، وهي تجعل أصحاب القرار والمجتمع العلمي والمدني في ثنائية التأثير والنقد المتبادلين؛ فالمجتمعات الترابية بدأت تتهاوى لتحل محلها ما يُسمى بالمؤسسات القطاعية والتي تأثرت بدورها بما يسميه عالم فرنسي من علماء السياسات العامة ألان تورين بـ»نمو التاريخانية» والتي تولد ما يمكن أن نسميه (uncertainty paradox)، أي مفارقة اللايقين.
فاللايقين ليس مردُّه عوامل خارجية مثلما كان الأمر في السابق، ولكنه يكمن في عوامل تكون المجتمعات مسؤولة عنها: كالتلوث والأزمات الاقتصادية والكوارث الصناعية والسلامة المرورية واستعمال الإرهابيين الأسلحة الفتاكة، إلى غير ذلك.. وبمعنى آخر، فإن الكثير من السياسات العامة إنما تُصاغ لحل مشاكل ولا توازنات سياسات عامة أخرى أو لنقل سياسات قطاعية أخرى: أي إن المجتمع القطاعي الذي يقع دائماً في حالات انعدام التوازن يولّد عدة مشاكل، وخللاً وظيفيّاً ونتائج سلبية، تحتاج بدورها إلى سياسات عامة أخرى لحلها.
ولا غرو أن جل المختصين والباحثين في هذا النوع من المراكز ملتزمون بنوع من الرياضة الذهنية في دراساتهم المستقبلية، حيث ينطلقون من مفهوم العلم ومن المرحلة الأخيرة التي يصل إليها الباحث في العلوم الاجتماعية، بمعنى أن تكون له القدرة على فهم الظاهرة الاجتماعية وتحليلها تحليلاً علمياً قبل أن يسبر أغوار المستقبل، معتمداً في ذلك على مرتكزات أساسية:
1) التحكم في المجالات التي توجه البحث مثل: التوازن البيئي - صياغة قوة دفاعية ردعية- التأثير في مجريات الأحداث الاستباقية دون الدخول في الحروب- ضمان استقرار التماسك الاجتماعي- تفادي الأزمات الاقتصادية.
2) تحديد البدائل المستقبلية انطلاقاً من الحاضر (وبالضبط انطلاقاً من نتائج الباحثين في العلوم الاجتماعية) لتأخذ الطابع النظري والمثالي.
3) اختيار بديل من البدائل المستقبلية كحل ناجع لمعضلة من المعضلات الممكنة أو لتحسين حالة من الحالات أو البدء في التأثير في مجريات الأحداث والتي لولاها لوصل المجتمع إلى حالة أسوأ.
يكون الهدف من البحث المستقبلي الذي تقوم به مراكز الأبحاث، الإسهام في خدمة المجتمع، تماماً كما هو شأن العلوم الاجتماعية، إلا أن الهدف الإضافي في هذا الجانب موضوع البحث يتمثَّل في تفادي المعيقات التي تمنع من تحقيق مستقبل أفضل وبلورة الحلول والبدائل المستقبلية لصنَّاع القرار.