أ.د.عبد الله بن سليم الرشيد
مجتمع التلاميذ صورة مصغّرة من المجتمع الكبير، ففي الفصل المدرسي الواحد تظهر (التكتُّلات)، والأحزاب، ويكون للفصل (عريفٌ) كالعمدة في الحيّ، يُرجَع إليه في بَسطِ الأمنِ، ومنعِ الفوضى، وردعِ الأشقياء، والإبلاغِ عما يقع.
ومن المشكلات الذائعة التي ما تزال تُلقي بوطأتِها على هذا المجتمع، الخصومةُ بين التلاميذ، وتحزّبُ بعضهم على بعض، والصراع المعلنُ حينًا، الخفيُّ حينًا آخر.
وكان مما أدركتُ أن تقع ملاسَنَةٌ بين اثنين أو أكثر، فإن كان في الفصل عقلاء، وقليلٌ ما هم، أخمدوا نارَ الفتنة، وحجزوا بين المتلاسِنين بالتي هي أحسن، وبمَسْح اللِّحى (مجازًا)، وبالوعدِ تارةً، والوعيدِ تارة أخرى.
وإذا انتصرت السفاهةُ، وهي الغالبة، انطلقت جملة (الوعَد الطَّلْعة) التي هي (إعلان حرب)، ويُراد بها أن (الرجالَ) يقاتلُ بعضُهم بعضًا خارج الأسوار، حيث لا رقيبَ من الإدارة ولا من المعلمين، وحينذاك يتسامع التلاميذ بالمناوشة التي توشكُ أن تقع، فيحتشدون بعد صافرة الخروج، على الأرصفة، ويمتطي بعضُهم ظهورَ السيارات، ثم يأتي الخصمان أو الخصوم، والنظرُ الشَّزْرُ غالبٌ، والفَحِيح والنَّحِيح يملآن الصدور، وصياحُ الوعيد والإنذار يُطربُ آذانَ المتشوّفين للمعركة وما تنجلي عنه، وبعد أن تضع الحربُ أوزارها، على أيِّ هيئةٍ تكون، تُسمَعُ كلماتٌ من قَبِيل (كفو)، (فقّعت وجهه)، (بطل)، وهلمّ جرًّا من جمل التشجيع والهياط والـمِياط التي من أشدّها وطأةً على القِرْنِ منهم ادّعاءُ أن الخصمَ (فقّع) وجهَه.
وقد يكونُ في هذه المقامات مثلُ ما كان من ذلك الذي رأى قومًا يضربون رجلًا، فشمّر عن ذراعيه، وشرع يضربُه معهم، فلمّا سأله القاضي، وقد رُفعوا إليه: لمَ ضربتَه؟ قال: رأيتُهم يضربونه، فضربته احتسابًا للأجر! نعم كان بعض التلاميذ (يحتسبُ الأجر)، فيتدخّل حميّةً لقريبه، أو وفاءً لصديقه، أو نصرةً لابن جيرانه، أو إسهامًا في الشرّ.
أذكرُ أن لأخي (خالد) موقفًا مع (الطَّلْعة)، إذْ كان في سنته الثانية الابتدائية في مدرسة حيّ الشفا في (مشروع ابن تركي) بالرياض، وكنتُ في الخامسة، فاعترض له أحدُ الصعاليك وآذَنَه بالشرّ، صائحًا: (الوعَد الطَّلْعة)، ولم أدرِ بهذا الذي وقع، إلا حين خرجت، فإذا أخي واقف كأنه ينتظر أحدًا، فسألته: ما شأنُك؟ فقال: (مواعدْ واحدْ أضاربه)! فزجرته فلم ينزجر، وخوّفته فلم يخفْ، وجررتُه فلم ينجرّ، وكدتُ أتركه لمصيره المحتوم، ولكني وقفت مضطرًّا حتى جاء الغريم، فاشتبك القِرْنان، وحمي الوطِيسُ، واحمرّت الحدق، فتدخّلتُ مع آخر، ففضَضْنا الاشتباك، وعاد أخي إلى البيت، وفي عينه أَماراتُ النشوة والزهو، فقد لقّن من أوعده (بالطَّلْعة) درسًا، وما كان ليخلفَ الوعد، فإن إخلافه إيذانٌ بالهزيمة في عُرف التلاميذ، وفيه شرفُ انتصارٍ لمن وقف ينتظر المعركة ثابتَ الجأش، حتى لو لم يقع العِراك.
كان أخي شجاعًا، أما أنا فكنت جبانًا، إذ أوعدني أحدُ الأوغاد وأنا في الرابعة الابتدائية، وكنتُ حديثَ عهدٍ بتلك المدرسة، لا مؤازرَ لي فيها ولا وَزَر، فرمى في وجهي تلك الجملة المدوّية (الوعَد الطَّلْعة)، لأمرٍ لا أذكره، فأخذتني الرِّعْدة، وظللتُ خائفًا أترقّب، حتى إذا انقضت الحصةُ الأخيرة، تسلّلتُ لِواذًا، مهتبِلًا زحامَ التلاميذ، وركبتُ الريحَ، أحثُّ راحلتيَّ الجُبنَ والذعرَ، حتى بلغتُ البيت لاهثًا.
وحين كنتُ تلميذًا في الثانوية رأيتُ بأمّ عيني وسمعتُ بأمّ أذني فريقين من التلاميذ يعلنان الحرب مردّدين (الوعَد الطَّلْعة)، فلما حَقّتْ ساعةُ الانصراف كنت قريبًا من هؤلاء المتخاصمين، أمشي في ساقتِهم غيرَ قاصدٍ، ولم نكدْ نجاوزُ بابَ المدرسة، حتى علا صوت، وأُجيبَ بمثله، وما هو إلا كرجْع الطرف، حتى اختلط الحابلُ بالنابل، ووقعت الواقعة، واشتبك الفريقان، و(فُقِئت عينٌ وطنّتْ ضِرسُ)، فكدتُ أذهبُ بين الأرجل. وهذا الذي وضعتُه بين قوسين بيتٌ من رجز قديم أقحمتُه للمبالغة فحسب. ولولا المبالغةُ والإيغال لفهمت الأدبَ البغال.
ومن هذا القَبِيل ما رواه مديرُ إحدى المدارس قبل ما يزيد على ثلث قرن، من أنه كان في مدرستِه حزبان من التلامذةِ يقتتلان كلما عنّت مشكلة ولو حقُرت، وأنهم في بعض أيام المدرسة المشهودة، بلغ بهم سيلُ الخصامِ الزُّبَى، وجاوز حزامُ العقلِ الطُّبْيَيْن، فلمّا صرّح الشرُّ وأمسى وهْو عُريان، اتّعدوا في (الطَّلْعة)، وإذا أمرٌ بُيِّتَ بِلَيلٍ، فكلُّ حزبٍ بما لديهم مدجّجون، وكلُّ فريقٍ جلب صعاليكَ من الحارات وأطرافِ الحيّ، مستصرخين إياهم، يا لفلان ويا لفلان، فـ(كان الصراخُ لهم قرعَ الظَّنابِيب)، قال: وأعدّ أحدُ الفريقين خُشُبًا فيها مسامير، فاتخذوها سلاحًا، وتدرّع خصومُهم بعصيٍّ وقُضبانِ حديد، فلما التقى الصفّان، دارت الرَّحى، والتحم الزُّعْرانُ بعضُهم ببعض، فسالت الدماء، وأُغمي على بعضٍ، وبعض ٌلاذ بالأزقّةِ هاربُه، ولم تضَع الحربُ أوزارَها إلا مع قدوم (دوريّات الأمن)!
وكان ما كان مما لستُ أذكرُه
فظُنّ [شرًّا] ولا تسألْ عن الخبرِ
كان مبدأُ ذلك كلِّه هذه الجملة الخطيرة (الوعَد الطَّلْعة)!
وأعجبُ ما بدا من إعلان الحرب بتلك الجملة الرامزة، أني – بعد أن صرتُ مدرّسًا في الثانوية - رأيت طالبين يُوعِدُ أحدُهما الآخرَ بالطَّلْعة، بمرأًى مني ومسمَع، وأنا في داخل الفصل، وهذا إخلالٌ بالأعراف (الدبلوماسية)، إذْ لا يليق أن يعلن الطالبُ الحربَ، والمعلمُ واقف قُبالته، ففيه إهانةٌ له، واستخفافٌ بحضوره، فالمعلمُ - مهما ضؤُل وحقُر في العين - هو الممثّل لهيبة (الدولة) وسلطانِها القاهر، ولكنّ الغضبَ كان يقدحُ من عين الـمُوعِد، حتى خشِيتُ على نفسي، وكنتُ شابًّا حديثَ عهدٍ بالتدريس، وبعضُ الطلابِ يقاربني سنًّا، ويفوقُني جَسامة وقَسامة، فأخذتُه بالموعظة وبالتي هي أحسن، حتى فتَرت حماستُه، وباخت نارُه، وقال: (والله على شانك يا أستاد)! - وأستاد في لهجته بالدال المهملة وتفخيم الألف قبلها - قلت: بارك الله فيك. وتلوتُ في نفسي: (رَبَّنَا اكْشِفْ عنّا العَذَابَ إنّا مُؤْمِنُون).
والأدهى من ذلك كلّه، أنْ شَهِدتُ في المدرسة نفسِها، معلمًا جديدًا، شابًّا يتّقدُ نشاطًا، ويمتلئُ عَجْرفيّةً، يُدِلّ بإفراعِ جسدِه، وطولِ قامتِه، وجَهارةِ صوتِه، وكان يَخالُ نفسَه حَجّاجًا جديدًا أُرسِل ليبسطَ سلطانَ المدير، ويبحثَ عن رؤوسٍ أينعتْ وحان قِطافُها، فكان يأخذُ التلاميذَ بالتي هي أسوأ، ويسعى إلى فرضِ هيبتِه بالصراخ واحمرارِ العين وشَتَامةِ الوجه.
وفي بعض أيامِه الغُرّ، قصّر بعضُ الطلاب في واجبهم، فأمرهم بالوقوف، فوقفوا إلا واحدًا، كانت فيه عزّةٌ ومكابرة، فأقبل إليه المعلّم (الحجّاجيّ) كاسرًا عينَه مُتَخازرًا، وقال بلهجة الآمر الزاجر: قِفْ مثلَ زملائك. فقال الطالبُ وهو في الهدوء إلى غايتِه: ما أنا بواقف. فصاح في وجهه: ستقف راغِمًا. فأبى، فما كان من المعلمِ إلا أن أهوى بيده إلى تلابيبِه فأمسك بها، وأراد جرّه من كرسيّه، فأهوى التلميذُ الجَسِيمُ كذلك إلى تلابيب المعلّم، واحتدم الأمر، وتَناصَى الرجلان، فتلاطما وتلاكما وتغافصا، ففضّ الطلابُ بينهما بعد لأيٍ، فابتعد المعلّمُ خطواتٍ، وأعلنها مدوّيَةً: (الوعَد الطَّلْعة)!
كان ذلك أعجبَ إعلان حربٍ بهذه الجملة، إذْ جرت العادةُ أن الطالبَ يقولها لطالبٍ مثله، أما أن يقولها معلمٌ لطالب، (فتلك لعمرُ اللهِ قاصمةُ الظهر). وظلّت هذه الحادثةُ طرفةً تُروى وأفكوهةً تُتناقل رَدْحًا، وأثارت الحديثَ عن فئامٍ يُزَجُّ بهم في حَلَبات التعليم وهم غيرُ مؤهَّلين ولا مدرّبين، وليس عندهم من سعةِ الصدر والحلمِ والصبرِ على لأواء التعليم وعزائمِ التربيةِ ما يمكّنُهم من خوضِ غمارِها.
ولأنَ الشيءَ يُذْكِرُ ضِدّه، وإن كان لا صلة له بإيعاد (الطَّلْعة) العجيب، تذكّرتُ أنه كان في المدرسة نفسِها معلّم حلبَ التعليمَ أشطرَه، وقور المشية، هادئ الخطوة، حليم كلَّ الحلم، فحدّثني أحدُ التلاميذ بعد حينٍ من الدهر، أن هذا المعلّمَ دخل الفصل الذي فيه هذا التلميذ، فرأى النُّفاياتِ تملؤه، فقال للتلامذة: تعاونوا ولْيجمعْ كلُّ واحد ما تحت كرسيّه ومِنْضدَتِه، ولْيضعْه في سلّة النُّفايات.
قال ذلك التلميذُ الراوي: فشرع كلُّ تلميذٍ يجمعُ ما أُمر بجمعه، أما أنا فبقيتُ منتصبَ الظهرِ، قاعدًا على الكرسيّ، غيرَ مستجيبٍ لأمره، فجاءني المعلّمُ يتهادى، فاستجمعتُ شجاعتي وصلابتي متهيّئًا لصفعةٍ تدوّي على خدّي أو قفاي، فلما دنا سألني: لمَ لا تفعلُ مثل البقيّة؟ فقلت: لم أَرْمِ شيئًا، ومن رماه هو الذي يجمعه، قال: وطاش بي الظنّ بأن الصفعةَ واقعةٌ لا محالة، وأنه سوف يـَجَأُ عنُقي، غير أنه قال هادئًا: (سأكسرُ هذا الكِبْرَ الذي في رأسِك)، ثم أهوى بيده يجمع النُّفايات، وكدتُ أسيخُ وأسيحُ - بالخاء والحاء - حياءً واحتقارًا لموقفي.
كان الأول ذا عُنجُهية والثاني ذا حِلْم وأَناة، فكان للثاني النجاحُ والنصرُ النفسيُّ والخُلُقي، وللأول الهزيمةُ التربويةُ والإخفاق، وبقي خبرُ الثاني يُدرّسُ في حسن التصرّف في هذه المواقف، وصار خبرُ الأول طُرفةً يُتنَدّر بها.
كانت تلك طيوفًا من زمانٍ مرّ، وصورًا من عيشٍ مضى، فإن رأيتَها حريّةً بالقراءة والقبول، فبِها وآجرَني اللهُ وإياك، وإن رأيتها غيرَ ذلك (فالوعد الطَّلْعة).