د.نادية هناوي
كانت الحكاية الشعبية ولا تزال ترويها الأمهات لأبنائهن بحسب ما ورثنه عن أمهاتهن وجداتهن اللائي بدورهن ورثن الحكايات عن أسلافهن. واحترف بعض الرجال في العصر العباسي رواية الحكاية الشعبية، واتخذوا منها مهنةً، وابتكروا أساليب في إلقائها، وصارت لهم في عصور لاحقة منابر خاصة داخل المقاهي والصالونات. وإحساساً من لدن بعض الأدباء المتعلمين في عصر النهضة الأدبية بأهمية توثيق الحكايات الشعبية، سعوا إلى جمعها وتدوينها ومنهم الأب انستاس ماري الكرملي الذي جمع في حدود الربع الأول من القرن العشرين أكثر من خمسين حكاية شعبية من أفواه النساء البغداديات المسلمات، ودوَّنها باللغة العامية بكتاب (ديوان التفتاف أو الحكايات البغداديات) أو ما يسمى التفتاف المتفتف. وليس هذا الصنيع بالجديد على تاريخ الأدب العربي، فمنذ القرنين الثالث والرابع للهجرة اهتم بعض الأدباء بتدوين الأدب الشعبي شعراً وسرداً، ومنهم من هو معروفٌ كالجاحظ والتوحيدي، ومنهم من هو مغمورٌ كأبي المطهر الأزدي؛ إذ لم يرد له ذكرٌ في كتب التراجم. ويُعتقد أنه عاش في حدود القرن الرابع للهجرة. وما يحسب لهذا الأديب أنّه قام بجمع حكاياتٍ شعبيةٍ، كانت تدور حول شيخٍ بلحيةٍ بيضاءَ، هو أبو القاسم البغدادي، وفي شكل قصةٍ واحدةٍ، متبعاً فيها تقاليد السرد العربي بكتابه (حكاية أبي القاسم البغدادي).
وإذا كان بديع الزمان الهمذاني قد ابتدع نوعاً سردياً هو المقامة، وبه طوّر شكلين سرديين كانا سائدين هما فن الخبر والحكاية، فإنّ أبا المطهر الأزدي طوّر فن المقامة، لأجل أن تكون قصة طويلة، لكن الفرق أنّ المقامة تندرج في الأدب الرسمي في حين أن قصة الأزدي الطويلة تندرج في الأدب الشعبي. ومن دلائل تطوير أبي المطهر فن المقامة ما يأتي:
1 - أنّه استغنى عن الحكاء بسارد عليم. والسبب أنّ الحكّاء صورةٌ أولى للمؤلف، والثقافة الشعبية لا مؤلف لها بعكس الثقافة الرسمية التي هي أحادية معلومة المؤلفين.
2 - أنّه جعل البطولة مطلقة لبطل واحد هو أبو القاسم البغدادي، ورسمه بحسب ما كان العوام يتداولونه من حكايات شعبية عنه.
3 - أنّ البطل حاكى واقعياً القاع التحتي للمجتمع العباسي من دون أن يسعى – في ما صنعه من احتيالٍ ودعاباتٍ وما أظهره من مهاراتٍ - إلى الارتفاع بنفسه لغوياً واجتماعياً، ليبلغ الواقع الفوقي للمجتمع.
4 - أنّ الأزدي كشف خفايا الواقع التحتي التي معها اتضح ما في الواقع الفوقي من زيفٍ على المستويين الفردي والجماعي.
5 - لم يتحرج الأزدي من ذكر الألفاظ المتداولة في القاع الشعبي البغدادي، ولا من ذكر ما هو ملحون نحوياً وفاحش اجتماعياً، لا لشيء سوى أنّ يدلل على واقعية أبي القاسم، وما اجتمع فيه من متناقضات فهو لبيبٌ وسخيفٌ، وقورٌ ومقامرٌ، ناسكٌ وزنديقٌ. ليس ذلك فحسب، بل إنه تقصَّد أن يجعل أخلاق البطل دليلاً على عموم أخلاق أهل العراق، يقول الأزدي في المقدمة: (هذه حكاية أبي القسم البغدادي التميمي وأحواله التي توضح لك أنه كان غرة الزمان، وعديل الشيطان، يجمع المحاسن والمقابح، متجاوزاً الغاية والحد، متكاملاً في الهزل والجد، موفوراً من الأخلاق والنفاق، متخلقاً منها بأخلاق أهل العراق. والجد لله وحده صلواته على سيدنا محمد نبيه وآله والسلام).
وفي هذه القصة أحداثٌ واقعيةٌ، وأخرى خياليةٌ، ويرد فيها كثيرٌ من الشعر الفصيح والعامي، يؤديان دوراً في القطع والوصل بين موتيفات كل حكايةٍ من جهة، وبين الحكايات من جهة أخرى. وقد يُنشد أبو القاسم البغدادي لشعراء الفصيح المعروفين مثل السري بن أحمد الموصلي أو لشعراء مغمورين كأبي علي القرمني. وعادةً ما يُكثر الأزدي من استعمال السجع وتوظيف العبارات المتجانسةِ وزناً والمتشاكلةِ لفظاً، وما كان شائعاً في النثر العباسي من محسناتٍ بديعيةٍ كالجناس والطباق. ولأنّ للطبيعة وكائناتها الحية دوراً حيوياً في بناء الحكاية الشعبية، حرص الأزدي على نقل بعض الصور الواقعية التي تؤكد العلاقة الصميمة بين الإنسان والوجود من حوله.
ولقد وثَّق الأزدي في كتابة هذه القصة ألفاظ البغداديين العامية في العصر العباسي مما لم تدونه القواميس والمعاجم الرسمية. وكان يُكثر من استعمال لفظة» إيش» كما ترد بعض الأخطاء النحوية والإملائية انعكاساً لما كان يشيع على لسان العامة آنذاك من لحن، وتدليلاً على الموقف السلبي لعامة الناس من رجال السياسة والحكم ومن البيئة والسلطة وما إلى ذلك.
وفي هذا دليل قاطع على مدى تأثير السرد وفاعليته في الحياة العربية. ولعل هناك أمثلةً أخرى تشاكل ما فعله الأزدي لكنها لم تصل إلينا أو أنها وصلت ولم تنل اهتماما بحثياً وعلمياً مناسبين، اعتقاداً بأن الحكاية الشعبية بسيطة البناء، وأن الراوي فيها يسعى نحو الوصول إلى هدفه بسرعة وبإيجاز دون لف أو دوران أو تطويل. وهذا ما يُخالف حقيقة ما في الحكاية الشعبية من تاريخ أدبي طويل وتقاليد سردية راسخة فضلاً عما تشتمل عليه من موتيفاتٍ وموضوعاتٍ، فيها أدلةٌ قاطعةٌ على طرائق التفكير الفني وكيفيات التفاعل الاجتماعي مع البيئة.