صباح عبدالله
ليست كل الروايات تولد لتكون مجرد حكاية مسلية أو نصًا عابرًا، فبعضها يظل حيًا بعد رحيل صاحبه، كأنه يملك قدرًا من الخلود، لأنه لا يحكي عن أشخاص وأحداث وحسب، بل عن جوهر التجربة الإنسانية في لحظات انكسارها أو مقاومتها. ومن هذا الطراز النادر تأتي رواية «لاعب الشطرنج» للكاتب النمساوي ستيفن تسفايغ، النص الذي يمكن اعتباره وصيته الأدبية الأخيرة، إذ كتبه في غربته بعيدًا عن وطنه وأوروبا التي كانت تنهار تحت أقدام النازية، ثم رحل منتحرًا مع زوجته بعد أن وضع النقطة الأخيرة فيه. وربما لهذا السبب تشع الرواية بطاقة مأساوية كثيفة، وكأنها ليست مجرد قصة، بل شهادة إنسانية صادقة على معاناة الروح حين تحاصرها العزلة، وتدفعها الظروف إلى مواجهة نفسها حتى تخاطر بفقدان اتزانها.
تبدأ الرواية على سطح سفينة تبحر بين نيويورك وبوينس آيرس، حيث يلتقي الركاب بشخصية بطل العالم في الشطرنج، ميركو سنتوفيتش. منذ الصفحات الأولى، يرسمه تسفايغ في صورة أقرب إلى الآلة منها إلى الإنسان. رجل قاسٍ، صامت، متعجرف، يختزل حياته كلها في رقعة من أربع وستين خانة، لايعرف غيرها ولا يتذوق شيئًا خارج حدودها. تفوقه في اللعبة مطلق، لكنه يخلو من أي ثقافة أو حس إنساني، حتى ليبدو وكأن ذكاءه كله محصور في أصابعه التي تحرك القطع، دون أن يملك عقلًا مفتوحًا أو روحًا متسعة. ورغم مكانته العالمية، فإن حضوره يثير نفورًا بقدر ما يثير إعجابًا، لأنه يجسد صورة العبقرية الخالية من الدفء، والموهبة التي جُردت من المعنى الإنساني، يحاول بعض الركاب التسلية بمنافسته في مباراة، لكنهم يسقطون أمامه واحدًا تلو الآخر في زمن قصير. بدا وكأن لا أحد يستطيع هزيمته أو حتى مجاراته. وهنا يظهر الدكتور ب، رجل متواضع المظهر، يثير اندهاش الجميع حين يتدخل بنقلات دقيقة تقلب مسار المباراة وتضع البطل العالمي في مأزق. لم يكن في هيئته ما يوحي بموهبة، لكن صلابته المفاجئة على الرقعة أيقظت فضول الركاب، ودعتهم إلى التساؤل عن هذا الرجل الذي استطاع مواجهة آلة بشرية متفوِّقة.
حين بدأ الدكتور ب بالكشف عن سر براعته، تحولت الرواية من مجرد وصف لمباراة على ظهر سفينة إلى رحلة في أعماق العزلة الإنسانية. فقد كان محاميًا نمساويًا شهيرًا في بلاده قبل أن تعتقله سلطات الاحتلال النازي وتلقي به في زنزانة انفرادية، عزلة مطبقة لا يسمع فيها صوتًا ولا يرى فيها بشرًا. كان يعيش في فراغ كامل، بلا كتاب ولا ورقة ولا قلم، مجرد جدران باردة وصمت ثقيل ينهش أعصابه يومًا بعد يوم. وكاد أن يفقد عقله لولا أنه عثر مصادفة على كتاب مهمل يضم مباريات شطرنج مدونة، كتاب بلا صور ولا شرح سوى سرد جاف للنقلات، ذلك الكتيب كان له أشبه بجرعة حياة. بدأ يحفظ النقلات واحدة تلو الأخرى، ثم يعيد استرجاعها في ذهنه مرارًا، حتى أتقن مئات المباريات. ومع الوقت ابتكر طريقة لينقذ نفسه من الفراغ القاتل: أن يلعب ضد نفسه. قسم عقله إلى لاعبين، الأبيض والأسود، وأطلق داخله مباراة لا تنتهي. كانت هذه المباريات المتخيلة تعطيه وهم الرفقة وتملأ فراغ الوحدة، لكنها مع مرور الزمن تحولت إلى سلاح ذي حدين. فقد وجد نفسه ممزقًا بين نصفين متصارعين من ذاته، يستنزف كل طاقته العصبية في معارك ذهنية لا تهدأ. صار مهووسًا بالشطرنج، يحيا في عالم داخلي مغلق، حتى أصيب باضطراب نفسي جعل عقله على حافة الانهيار.
خرج من السجن وهو يحمل جرحًا خفيًا لا يُرى على الجسد، بل على الروح. لم يكن لاعب محترفًا بالمعنى التقليدي، لكنه صار مسكونًا باللعبة كمن يطارده شبح لا يزول. وحين جلس على السفينة ليواجه سنتوفيتش، بدا وكأنه يستعيد توازنه أمام آلة بشرية أخرى، فأثبت قدرته المدهشة على قراءة النقلات وفضح ثغرات الخصم. غير أن هذه المواجهة أيقظت داخله الجرح القديم، وعاد الإحساس بالانقسام بين الأبيض والأسود، بين الأنا والأنا الأخرى. وفي لحظة وعي مؤلمة أدرك أنه إذا واصل اللعب فسوف يسقط ثانية في هاوية الجنون، فآثر أن ينسحب، راسمًا صورة مأساوية لإنسان أنقذ نفسه بالخيال ثم كاد أن يهلك به.
في هذه الثنائية العجيبة بين سنتوفيتش والدكتور ب، يضع تسفايغ أمامنا نموذجين متناقضين للوجود الإنساني. الأول يمثِّل العبقرية الخالية من الروح، العقل الذي يعرف كيف ينتصر لكنه يفتقر إلى أي بعد إنساني. والثاني يمثِّل الروح المحاصرة التي تحاول النجاة بكل وسيلة، حتى لو كانت وسيلة النجاة تحمل في طياتها بذور الفناء. وفي المسافة بينهما يكمن المعنى الأعمق للرواية: أن الإنسان حين يُحاصر، لا يكون صراعه مع العالم الخارجي فقط، بل مع داخله أيضًا، مع عزلة تتحول إلى وحش، ومع خيال يتحول من ملاذ إلى سجن.
إن ما يجعل هذه الرواية الصغيرة نصًا خالدًا ليس حبكتها وحدها، بل قدرتها على أن تختصر في صفحات محدودة أسئلة لا نهائية: كيف يحافظ العقل على توازنه حين يُسجن في عزلة مطلقة؟ إلى أي حد يمكن للخيال أن يكون وسيلة نجاة قبل أن يتحول إلى مصدر فناء؟ وهل العبقرية بلا إنسانية فضيلة أم نقمة؟
بهذا المعنى، تظل «لاعب الشطرنج» نصًا يتجاوز زمانه ومكانه، لأن معضلاته ليست مرتبطة بالحرب وحدها، بل بالإنسان في كل عصر. كل قارئ يجد فيها صدى لتجربته الخاصة، سواء في مواجهة الوحدة أو في البحث عن معنى يقيه الانهيار. إنها رواية تكشف أن رقعة الشطرنج ما هي إلا صورة مصغرة عن رقعة الحياة: جولات نربحها وأخرى نخسرها، صراعات ننتصر فيها على خصومنا لكننا نخسر معها شيئًا من سلامنا الداخلي. هي في النهاية ليست رواية عن لعبة، بل عن الإنسان حين يجد نفسه محاصرًا في أضيق رقعة: ذاته.