أ.د. محمد خير محمود البقاعي
أضفت إلى العنوان المغري لهذه المراجعة: «ترجمة تحمل أملا» Une version porteuse d)espoir
عبارة: «مرامٍ خفية» لأن وراء الأكمة ما وراءها. ولكي يتنبه القارئ العربي إلى بعض ما يُطْرَح من فكر يجري تغليفه بغلاف الإنسانية والتعايش سعياً إلى أهداف ذات علاقة بالترويج لنظريات ثقافية، ذات أغراض سياسية.
نشرت هذه المراجعة على موقع ليزيكو، Les Echos بتاريخ 5 فبراير 1991م، وهي مراجعة لإحدى ترجمات القرآن الكريم إلى اللغة الفرنسية.
كنت عندما صدرت ترجمة القرآن هذه، عام 1990م ما زلت أعمل في قسم اللغات الشرقية العريق في جامعة إكس-أن-بروفانس، Aix-en-Provence، صحبة كوكبة من أساتذة اللغات والمؤرخين والأنثروبولوجيين، الذين تعلمت منهم أشياء كثيرة؛ وكان من أبرز أولئك الأساتذة البروفسور كلود جيليو Claude Gilliot
(1941-.....)، من الآباء الدومينيكان، وأستاذ الدراسات الإسلامية في الجامعة المذكورة منذ عام 1989م وحتى تقاعده في عام 2006م.
ولما صدرت دفعة واحدة في عام 1990م ثلاث ترجمات لمعاني القرآن الكريم لكل من:
وجاك برك، (1910- 1995م) Jacques Berque، وأندريه شوراكي، (1917- 2007م) A, Chouraqui، ورينيه خوام (1917 - 2004م) Rene Khawam.
كتب الدكتور جيليو في مجلة «أرابيكا» مراجعة للترجمات الثلاث؛ قدمت لها ملخصا وعلقت عليها في ندوة «ترجمة معاني القرآن الكريم، تقويم للماضي وتخطيط للمستقبل»؛ التي أقامها «مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف»، وانعقدت بين 10-12/2/1423هـ الموافق 23-25/4/2002م في مقر المجمع في المدينة المنورة، ثم نشر مع أبحاث الندوة الأخرى في مطبوعات المؤتمر.
أجريت على البحث بعض التعديل ونشرته مع بحث آخر بعنوان هو عنوان الكتاب «الترجمة وتحريف الكلم»؛ بينت فيه أن الترجمة من السريانية، اللغة السامية، إلى اللاتينية كانت وراء تحريف الكتب السماوية لأن الصبغة الوثنية التي وسمت بميسمها هذين الكتابين المقدسين (التوراة والإنجيل) مع غياب الأصول العبرية والآرامية-السريانية. جرى ذلك في كتابي «الترجمة وتحريف الكلم» الذي صدر أول مرة عن دار ابن حزم، الرياض، 1424هـ/2003م.
ثم صدر معدلاً ومزيداً في العدد 243 من سلسلة كتاب «المجلة العربية»، 1438هـ/2017م، بعنوان: (الترجمة وتحريف الكلم: قراءة في ترجمات القرآن الكريم).
إن الترجمة التي تتناولها هذه المراجعة نهج انفرد به أندريه شوراكي الذي يمرر عبر المشاعر الإنسانية والتسامح الديني المفترض رسالة هي في رأيي خطيرة، ولكنه يلبسها لبوسا إنسانيا، كما جرت العادة في أعمال بعض المستشرقين الذين انحازوا إلى وجهات نظر تحط من قدر الإرث العربي الديني والأدبي، مع ظلال من العرقية والتعصب الديني، شأن مواقف إرنست رينان المعلنة (1823-1892) Ernest Renan
وشأن ريجيس بلاشير (1900-1973م) Régis Blachère الذي ترجم القرآن، وادعى أن نصه يعاني من نقص استكمله، كما ادعى، من التوراة والأناجيل، (وسنجد هذه النزعة مطورة عند شوراكي، ومقصورة على العبرية)، كل هذا ناهيك عن المواقف السلبية التي تتزيا بزي العلم والحقيقة العلمية.
لقد وجدت ترجمة هذه المراجعة فرصة للتنبيه على نمط جديد من الاستشراق؛ نمط سلك أصحابه مسلك التخفي وراء الحقيقة العلمية المزعومة لتمرير رسائل إيديولوجية خطيرة يحسن التدرب على اكتشافها، وقد بلغ العالم كل مبلغ في استهداف رموز هويتنا الثقافية والدينية. لم يبق لشوراكي من المزاعم إلا أن يقول، كما استنتج جيليو من ترجمته؛ «إن القرآن، وحاشا لله، نزل بالعبرية وترجم إلى العربية». والمثل الدال الأقرب هو ترجمته للبسملة مخالفا كل من ترجم القرآن؛ إذ لم يعد الرحمن والرحيم إلى «رحم» الذي اشتق منه المصدر الرحمة، والرحمان والرحيم صيغتا مبالغة أولهما لا يسمى به البشر مفردا، والتسمية مباحة في الثاني.
واستقر العرف بين مترجمي القرآن أن يترجم بقولنا:
« Au nom d)Allah le Matriciant, le Matriciel ».
حتى طلع علينا شوراكي بترجمة تخترق كل مقاييس العربية وتراثها؛ إذ ترجم البسملة بالقول:
«Au nom d)Allah le Matriciant, le Matriciel».
والماتربس matrice يعني - رَحِم: مَوْضِعُ الجَنِينِ في بَطْنِ الأمّ. وهذا له علاقة بالرحم في العبرية نفس الكلمة العربية: (????? = رِحِم) كما أخبرني الأستاذ الدكتور عبد الرحمن السليمان لما استفتيه فقال: «وقد سميتُ ذلك في أحد أبحاثي بعبرنة المصطلح الديني الإسلامي برد مفاهيمه إلى ما يجانسه تأثيليا في العبرية رغم الفرق الدلالي».
وقال أيضا: «مثال ذلك: الزكاة هي كلمة مشتركة في اللغات السامية بمعنى البراءة/الطهارة، أما الزكاة بمفهومها الإسلامي (النِّصَاب) فهذا مخصوص بالإسلام فقط. مع ذلك ردها بعض المترجمين إلى المعنى السامي المشترك ب دلاً من نقحرتها» (والنقحرة: كتابة حروف كلمات لغة بحروف لغة أخرى).
نص المراجعة: كان بطرس المبجل، (نحو 1056-1092م) Pierre le Vénérable, رئيس دير كلوني
Abbaye de Cluny الواقع في جنوب فرنسا، أول من اكتشفت أوروبا بجهوده القرآن الكريم، بعد خمسة قرون على نزوله: فقد سعى إلى ترجمته، إلى اللغة اللاتينية.
ويعود تاريخ أول ترجمة فرنسية إلى عام 1647م، أنجزها أندريه دورييه André de Ryer ونُشرت في باريس في العام المذكور. وقد ظهرت منذ ذلك الحين ترجمات كثيرة، ومع أن كل من ترجمه يعلم أن «القرآن والكتاب المقدس يستعصيان على الترجمة».
يذكِّر المترجم أندريه شوراكي بذلك في مقدمة ترجمته. لقد سبق له أن ترجم بدقة الكتاب المقدس من العبرية مباشرة، العبرية التي يتحدثها في حياته اليومية.
وقد سبق له أن كان معاونا لمحافظ القدس.
لقد أراد، حاملاً روح المبادرة نفسها، العمل على التعريف بالكتاب المقدس الآخر والأخير، الذي نهل منه في شبيبته؛ شوراكي يهودي من أصل جزائري، كانت العربية لغته الأم، وأرض الإسلام موطنه الأول.
إن من يقرأ ترجمته أول مرة وفي ذهنه أفكار مسبقة ستصدمه لأول وهلة طبيعتها بلا شك: في السورة الأولى، ترد في بدايتها البسملة المعتادة، وهي بلا شك أكثر ما يتردد على الألسنة؛ بسلمة أصبحت ترجمتها تقليدية، ومتداولة، حتى جاء شوراكي واقترح لها ترجمة غير مسبوقة: فقد اعتاد مترجمو القرآن على ترجمتها: ?« Au nom d)Allah le clément et le misécordieux »
{بسم الله الرحمن الرحيم}
التي أصبحت في ترجمته:
« Au nom d)Allah le Matriciant, le Matriciel ».
إن إندريه شوراكي، الذي أنجز ترجمته بتعاون وثيق مع أستاذ في اللغات السامية والقرآن في مصر وفي جامعة السوربون، واستشار كثيرا من العارفين بالقرآن، يقول: إننا عمدنا في كثير من الأحيان إلى إعادة تشكيل النص تبعا لردود أفعالنا الخاصة بالغربيين، ذوي الثقافة المسيحية، وأنه، شوراكي، عاد إلى جذور اللغة العربية التي كانت أيام الرسالة المحمدية «أكثر قربا من عبرية التوراة، منها إلى اللغة العربية الحديثة».
(إن لكلمة «إسلام» في العبرية الجذر نفسه الذي نجده لكلمة «شالوم» في العبرية (????) التي تعني السلام، وكلمة «إلوهيم» بالعبرية (????????) التي تعني الله بالعربية.
لقد سلك شوراكي طريقا صعبة، إذا علمنا أن العرب أنفسهم يجدون لآيات من القرآن أكثر من اثني عشر تفسيرا مختلفة مقبولة، فلم لا نعمد إلى اعتماد هذه الترجمة التي تحرص على عدم إغلاق أي باب من أبواب الأمل نحو فهم متبادل؟
إن هذه الترجمة، وإن استخدمت الكلمات من منظورها الخاص، نجدها في ترجمة شوراكي تتلافى التأويلات النمطية السائدة.
ليست هذه الترجمة في كثير من مواضعها سهلة القراءة.
ومهما يكن من أمر! متى كانت قراءة القرآن، بسوره التي يبلغ عددها مئة وأربع عشرة سورة (114)، سور متفاوتة كل التفاوت في الطول، أمرا يسيرا؟
إن شهادة الاعتراف التي ضمنها شوراكي في إضاءة وضعها في مطلع الترجمة، كتبها قبل نشوب حرب الخليج، إضاءة لا يستطيع أحد إنكار مضمونها اليوم، تحمل بشائر أمل جديد.
إن هذا اليهودي الذي كان مستشارا لبن غوريون Ben Gourion يرى في القرآن «نصا ينير الآفاق» شق طريقه في أزمنة الجدب بعد التوراة والإنجيل، طريقا تصاعديا ابتدأه إبراهيم، وسار عليه موسى والمسيح، طريقا تلقينا الأمانة لنسلكه عبر المسارات الواضحة السالكة للأنبياء والقديسين؛ الداعين إلى الاتحاد بالحب».
إن ما يعبد الطريق إلى هذه الترجمة أن المترجم أرفق بها تسلسلاً زمنياً للعالم العربي الإسلامي حتى بدايات نشوء المجتمع الإسلامي بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم -وعلى وجه الخصوص الانقسام بين سنة وشيعة- إن هذه لترجمة تقع اليوم على الخريطة في أفق جديد، بل يمكن القول على وجه العموم إنها ضرورية لمن يود أن يحاول في أضعف الإيمان، إن لم يرد تفهم ما يجري، ألا يولي أي اهتمام لمن يطلقون الأحكام الجاهزة.
فبراير 1991م. ولنا لقاء.