د.عبدالإله موسى آل سوداء
كان مما انتهيتُ إليه في المقالة الأولى، وجودُ مُشكلةٍ في مُحرَّراتِنا وكِتاباتِنا المعاصرة ولاسيما في دول المشرق العربي، تتمثّل في ازدواجيةِ استعمال الأرقام العربية بصورتيها: العربية المشرقية، والعربية المغربية المستعمَلَة الآن في أوروبا والصين وغير ذلك من الدول، وهي ازدواجيةٌ نَجدها جليةً في مُحَرَّرَاتِ بعض الجهات الحكومية المذكورة في المقالة الأولى، التي فَضَّلَتْ استعمالَ الأرقام (العربية المغربية العالمية) في جميع محرراتها باستثناء خطاباتها الرسمية، مع عدم ذكرها لسبب التفضيل، وقد أسلفْتُ أنّ هذا التوجّه لدى بعض الجهات الحكومية لربما نَبَعَ من حاجةٍ لاستغلال مزايا الرقم العربي المغربي، حيث هو المعتَمَدُ عالَميّاً في صورته المعروفة(0-9) باسم Arabic Numerals ، وهو إلى جانب ذلك يُعبّر بدقةٍ عن قيمة العدد الذي يَرمُزُ إليه، بما أنه بُني أصلاً على نظام الزوايا، ولأجل هذا قد يُكتَفَى به في تدوين مبلغٍ مالي كبير، ولا يُحتاجُ معه إلى كتابة المبلغ بالحروف كما في الأرقام (العربية المشرقية) التي تُعَدُّ طَـيِّـعَةً للتزوير، أو تَـلْتَبِسُ على قارئها، بالنظر إلى أنّ بعض رموزها تتقاربُ في الشّكْل كما في (2-3)، وكذلك وجودُ مُعضلةِ الصفر (0) و رمز العدد واحد (1) وإلى ما هنالك من المآخذ على صورة الرقم العربي المشرقي، الأمر الذي حَدا بهذه الجهات الحكومية إلى الرغبة والعدول عن استعماله إلا في نطاقٍ محدود.
ومن الملحوظ أن ازدواجية الاستعمال موجودة أيضًا في بعض المناهج الدراسية، ذلك أنّ الطلبة يَتَعامَلون في منهج الرياضيات منذ الصفوف الأولى وحتى الصف الثالث متوسط بالأرقام العربية المشرقية، وحين يَنتقلون إلى المرحلة الثانوية يتعاملون في المنهج نفسِه بالأرقام (العربية المغربية العالَمية)، وقد يكون لدى وزارة التعليم مسوغاتها لهذه النقلة، لكنّ الإشكال هو أن الطلبة سيحدث لديهم تذبذب في استعمال رموز الأرقام، ليس داخل نطاق المدرسة أو الجامعة فحسب؛ بل حتى في حياتهم الوظيفية مستقبلاً، وقد كان من الأفضل أنْ تُحسَمَ منذ البداية مسألة: هل نَستعمل الأرقام (العربية المشرقية) أم (العربية المغربية العالَمية) في مناهجنا؟ وكان رأيي أنّ الأرقامَ (العربية المغربية العالمية) فرَضَتْ نفسها، وأبانَتْ عن مزاياها، وأنّ مسوغات اعتمادها في جميع محرراتنا قوية وذات حُجة، ولن تَكفي هذه المساحة الصغيرة لذِكرها، ويَكفي أن شعارَ رؤية المملكة 2030 قد اختير له صورة (الأرقام العربية المغربية العالمية)، وهذا في رأيي يَدعَمُ جانبَ الحسْم في هذه المسألة دون تردد.
إنّ مما يَتخوّفُ منه بعض مثقفينا الغيورين، هو ضياع هويتنا العربية والإسلامية بالتخلي عن (الأرقام العربية المشرقية)، وهو خوفٌ لا يَستندُ إلى حِجاجٍ مُقنِع، إذْ هل الهوية القومية والدينية تتعلق برمز حسابي يعبّر عن عددٍ معين؟ ثم هل هذه الرموز الرقمية بصورتيها تُمثّل اللغةَ العربية بوصفها نظامًا نحوياً وصرفيا يدل على معنى ويُستعمَلُ في التواصل اللفظي بين الأفراد والجماعات؟ وهل هذه الأرقام بصورتها الرمزية تَحمل ثقافتنا العربية والإسلامية كالألفاظ والمعاني؟ الجواب هو أنها ليستْ كذلك، هي مجرد صور رمزية للأعداد، ومِثلها أو قريبٌ منها (علامات الترقيم) التي لم تُعرف في الكتابة العربية إلا منذ مئة سنة تقريبا، حيث أخذها أحمد زكي باشا عن الأوروبيين، وأجرى عليها تحويرًا لتتناسب مع الخط العربي، تمامًا كالأرقام العربية بصورتيها، فهما قد أخذا عن الهندية -في أصح الأقوال- في أوائل العصر العباسي، ثم جرى عليهما تحوير وتعديل بتعاقب الأجيال، إلى أن انتهى بهما المطاف إلى صورتيهما الآن، وهذا القول قد استنتجه الباحث: صالح بن إبراهيم الحسن، بعد بحثٍ دؤوبٍ وتحقيقٍ رصين، في كتابه: «أرقامنا: الحقائق والحقيقة المغيبة» الصادر عام 1423هـ ، مع الإشارة إلى أن هذا الباحث يَرى وجوبَ الأخذ بالأرقام العربية المشرقية، واطّراح الأرقام العربية المغربية العالَمية، بل إنه حَذّرَ من خطورة الرأي القائل بالأخذ بالأرقام المغربية التي يُسميها (المغتربة)، إلا أنّ مَنْ يَقرأ كتابَه هذا يُدركُ أنه كُتِبَ في مرحلة زمنية كان التوجّسُ فيها من (التغريب) على أشُده، إذ كَتَبَ مقالاته البحثية التي جَمَعَها في هذا الكتاب منذ عام 1420هـ وحتى صدور الكتاب عام 1423هـ.
ثم إنه لا تَغريبَ ولا تَغَرُّبَ في أخذنا بالأرقام (العربية المغربية العالَمية)، إنها بضاعتُنا رُدّتْ إلينا، وسيظل النص الذي سَطّره ابن الياسمين(توفي 601هـ) شاهدًا على عُروبةِ هذه الأرقام، حيث كان يعيش في مدينة فاس في المغرب الأقصى، وقد أوردَ في كتابه: «تلقيح الأفكار في العمل برسم الغبار» أشكالَ الأرقام العربية المغربية، وهي تُشبه إلى حد كبير الأرقامَ العالمية المستعملة الآن في أوروبا وغيرها من البلدان، ولعلها تطورتْ أكثر في بيئتها العربية المغربية إلى أن استقرتْ على نحوٍ معين فجاء الإيطالي ليوناردو فيبوناتشي إلى مدينة بجاية في الجزائر، وتَعَلّمَ الأرقام العربية المغربية (الغبارية) ثم عاد إلى إيطاليا لينشرها في كتابه: «Liber Abaci» سنة 1202م، ثم انتشرت في أوروبا بدلاً من الأرقام الرومانية الثقيلة والمعقدة، ومن هنا سَمّوْها الأوروبيون بـ Arabic Numerals .
إن حَسْمَ مسألة الأرقام لصالح الأرقام (العربية المغربية العالَمية) باتَ واجبًا منوطًا بالمؤسسات المعنية، لكي نتخلّص من التناقض المنهجي في مؤلفاتنا، ومحرراتنا الإدارية في الجهات الحكومية وغيرها من الجهات، وفي شاشات القنوات والأجهزة الذكية، فضلاً عن أننا سنطمئن على عدم تذبذب الطلبة في مناهجهم الدراسية، وذلك حين لا يَقرؤون من رموز الأرقام إلا صورةً واحدةً يَنتظمون على تَلقيها واستعمالها في الكتابة ولا يتشتتون بين صورتين، كما أن الازدواجية تُلحَظُ في استعمال الأرقام في لوحات السيارات، حيث يُكتَب الرقمان بالصورتين في حيزٍ صغير لا يَحتمل ذلك! وما كان أغنانا عن هذا التناقض والإرباك للمتلقي والقارئ لو حسمنا هذه المسألة، وأخذْنا بإحدى الصورتين بعد تأمُّلنا للصورة الأصلح والأوسع انتشارًا والتي لها سندٌ من تراثنا وهي أرقامنا (العربية المغربية العالَمية 9876543210) المعتمَدَة عالَميًا في البرمجيات وقواعد البيانات، وبالأخذ بها سنتفادى ازدواجية البرمجيات التي تزيد من تكاليف التطوير للشركات متعددة الجنسيات، وسنتحاشى كذلك عوائق الشفافية وسرعة المعاملات في التجارة الدولية كأنظمة (ISBN, IBAN,SWIFT) وغيرها، وأيضًا خوارزميات المعالجة اللغوية (NLP) حيث تتعامل مع الأرقام المغربية العالَمية بوصفها المعيارَ العالمي، وسَنَـسْلَمُ من الازدواجية المعرفية للطالب الذي يتعلم الحساب بالأرقام المشرقية ثم يُجبر على تعلم الأرقام المغربية عند التعامل مع المراجع الأجنبية أو البرمجيات كـ(MATLAB, Python) وهذا عبء إضافي يُعطّل التعلم.
وأختم بالتأكيد على أنّ المشكلة التي نعانيها في مُحرراتنا وكتاباتنا والمتمثّلة في التذبذب في استعمال الصورتين: الأرقام العربية المشرقية، أو الأرقام العربية المغربية(العالَمية) ستظل معاناةً قائمة إلى أن تنتهض لها جهةٌ مسؤولة تَحسمُ أمرها، وتُلزمُ باستعمال الصورة الأصلح، رأفةً بقرّاء العربية الفصحى، وشفقةً على الناشئة في المدارس أن يتذبذبوا ويَـتحيّروا بين استعمال الصورتين أثناء كتابتهم للأرقام، ثم يظل هذا ديدنهم في بقية مراحل حياتهم.