د.محمد الدبيسي
وإلى ذلك كان ولَعُهُ بـ(الأوَّليَّات)، التي ما انفكَّ يؤكِّد عليها، ويذكِّرُ بها بين فينةٍ وأخرى، وينصُّ عليها في عناوين مؤلَّفَاته، وأحصاها وعدَّها عدًّا في العدد الفضي للمنهل، فبلغت: (أربعًا وستين) أوَّلِيةً، له وللمنهل.
وممَّا أُثرَ عنه، وطابقَ صنيعَهُ في بعض مؤلَّفَاته، حرصه على أن يكون الأوَّلَ، والمبرز، والرَّائد، وأن تكون المنهلُ كذلك، فبينهما تماهٍ لا تخفى مظاهره على المتأمِّل، ووحدةٍ بنيويةٍ قامت على قواعدَ موضوعية، وكان تلاميذه يرونه الأوَّلَ، ويلحظون حرصه على أن يكون كذلك، يقول أحد أولئك التلاميذ: «في الخمسينيات والستينيات الهجرية، كان اتصالي بالحياة الأدبية، بواسطة أستاذنا الكبير المرحوم عبدالقدوس الأنصاري، الذي كان يدرِّسُ لنا الأدب العربي في مدرسة العلوم الشرعية، وكان من أنشط الأدباء، ومن أوائل من ألَّفَ في الأدب والتاريخ، وكان يضع على كُتُبِهِ عبارة: (أوَّلُ كتابٍ من نوعه صدر في الحجاز)، ومن الكتب التي ألَّفَها، ونالت رواجًا كبيرًا، كتاب: (آثار المدينة المنورة)، وكان أكثر الحجاج يشترونه ويستفيدون منه».
وكذا كان من أقرانِهِ ومجايليه من يُقدِّر أوَّلِيَّاتِه، ويرى استحقاقه إياها، يقول الأستاذ عبدالعزيز الرفاعي (ت 1414هـ = 1993م): «كانت له حقًّا أوَّليَّاتٌ متعدِّدَةٌ، وكان على ما يبدو يخشى أن تُغْفِلها ذاكرةُ الزمن، فكان يتولَّى هو نفسُهُ التَّذكيرَ بها، وإنِّي لأرجو أن يَذْكُرَها له الذَاكرون»، وقد تحقَّقَ ذلك الرجاءُ؛ فذكرَ تلاميذُ الأنصاري أوَّليَّاته، وحفَظَها له التاريخ، ومنها ما حقَّقَه بواسطة المنهل، وما سجَّلهُ لها من تلك الأوَّليَّات، التي أصابَ جُلُّها الحقيقة، وجاء بعضها بدهيًا لقدامةِ المنهل زمنيًا، وخلو الساحة الثقافية من مجلاتٍ مماثلةٍ في ذلك الحين.
وجاءت أوَّلِياتُ المنهل موَّزعةً بين مطالبَ وطنيةٍ عامةٍ، وأخرى ثقافيةٍ وفنيةٍ، كقوله: «أوَّلُ صحيفةٍ وطنيةٍ صدرتْ في المدينة المنورة. وأوَّلُ صحيفةٍ أدخلتْ المقالاتِ القصيرةِ في افتتاحياتها.
وأولُ صحيفةٍ فتحتْ صدرَها للناشئين، لترتقي بمواهبِهِم وتفكيرهِم.
وأوَّلُ صحيفةٍ وطنيةٍ ركَّزتْ قسطًا كبيرًا من اهتمامِها في الدَّعوةِ لتصنيعِ البلاد. وأوَّلُ صحيفةٍ وطنيةٍ قامت باستفتاءِ الكبارِ والعلماءِ والأدباءِ والمسؤولين» الخ.
وحِينَ أتمَّتِ المنهلُ (عشرة) أعوام من عمرها، كانت نتائجها في حركة الأدب تتراكم، ودورها الثقافي يزداد رسوخًا وتأثيرًا، وسمعتها تتنامى، وثقة المثقفين فيها من جُلِّ الأطياف تتأكَّد وتقوى، وهي نتائجُ كان وقودها: الأنصاريُّ الأديب والمثقف، ورئيس التحرير صاحب المنهل، الذي كان يرقبُ حلمه، ويُتابع فصولَ اكتمالِهِ فثمارِهِ، لحظةً بلحظةٍ، وشهرًا إثر شهرٍ، وعامًا بعد عام، وعندما بَلغتِ المنهلُ عامها (الخمسين)، كان صاحبها قد بُلِّغَ (الثمانين) حولًا، وبلغَتِ الحركةُ الثقافيةُ المكانةَ التي كانت المجلة، وصاحبها يرنوان إليها.
وشَبَّ الأدبُ الذي وَرَدَ المنهلَ، ونمتْ فروعه وأينعتْ ثماره على صفحاته، يقول الأستاذ محمد سعيد العامودي (ت 1411هـ = 1991م): «ومنذ ميلادِ المنهل، ونحن نلمسُ الطاقاتِ الفكريةِ للأدب، ونستمتعُ بالرَّوافدِ الأدبيةِ للشعر، وكلاهما يمثِّلُ رحلةَ المنهلِ في فترة الخمسين عامًا، وهي رحلةٌ طويلةٌ وشاقَّةٌ، والفترةُ التي تستقطبُ عمر المنهل؛ تجسِّدُ تاريخَ الأدب والشعر السعودي، طوال سنواتِ الانفتاح في العهد السعودي الزاهر، وقد تزامنَ العهدُ السعودي واليقظةُ الشاملةُ، وكلاهما يمثِّل ميلادَ النهضةِ الأدبيةِ، والانفتاحَ على كلِّ جوانب الحياة».
إنَّ إشارةَ العامودي: الأديب، ورئيس تحرير مجلة الحج، والفاعل الثقافي في عصره، إلى (تزامنِ العهد السياسي، واليقظة الشاملة، مع النهضة الأدبية والانفتاح) خلال (الخمسين) عامًا، من عمر المنهل؛ إشارةٌ مهمةٌ من مثقفٍ عاش تلك الحقبةِ الثقافية، وخَبَرَ أحوالها، وشارك في قضاياها، ولا سيما الأدبية، التي كان للمنهل دورٌ رئيسٌ في العناية بها، والسِّجَال حولها، وإبرازها على نحوٍ لم يكن منتشرًا ومؤثِّرًا في صُحُفِ تلك المدة - وبخاصةٍ في بداياتها - كما كان شأنه في المنهل.
وتُدينُ جمهرةٌ من روَّادِ الفكرِ والثقافةِ في بلادنا للمنهل بالفضل، حيث كانت ميدان نشاطهم الثقافي، والمجال الفسيح الذي وَصلَ فكرَهُم وإنتاجهم بالقُرَّاء، وبجماهير الثقافة في الداخل والخارج، يقول العلَّامةُ حمد الجاسر (ت 1421هـ = 2000م): «منزلةُ الأستاذِ الأنصاريِّ في نفسي، لستُ بحاجةٍ إلى أن أتحدَّثَ عنها، فأنا أعترفُ له بالفضلِ بالنسبة إليَّ؛ لأنَّه أوَّلُ من أتاحَ لي فرصةَ نَشرِ بعض أرائي، بل كان مُشجّعًا لي، حيث أفسحَ لي في مجلته؛ بأن عمدَ إلى نَشْر ِكل ما أُقدِّمُه له، بل كان فوقَ ذلك يدفعُني في كثيرٍ من الأحيان، إلى أن أكتبَ في موضوعاتٍ لم أُفكِّر في أن أكتبَ عنها، ولهذا جعلني أطرقُ نواحي فكرية، كان هو السببَ في أن أتعمَّقَ في دراستها».
ولم تمنع النِّديَّةُ والتنافسُ بين العَلَمَين الرَّائدين - اللذان اشتركا في الاهتمام بقضايا اللغة العربية، والتاريخ، ولا سيما تاريخ الجزيرة العربية - من التقائهما في ميدان النشر الصحفي الثقافي، الذي وَرَدَهُ كلاهما، وأفادا منه، وأفادا بواسطته، كما هو حال الأنصاري في المنهل، وحال الجاسر حين أسَّسَ مجلةَ العرب عام 1386هـ = 1966م، التي كان الأنصاري من كتَّابِها في بعض الأعداد، وكان كلا العالِمينِ من كُتَّابِ مجلاتٍ ثقافيةٍ أخرى غير المنهلِ والعَربِ، في المملكةِ وخارجِها.
ثم كان بينهما الاختلاف في (ضمِّ جِيمِ جُدَّة)، الذي أظهر قدرتهما على السِّجال العلمي، وإن في مسألةٍ لغويةٍ شكليةٍ، جلَّى اختلافهما حولها، مُكْنَتَهما في بسطِ الرأي العلمي، وتعليله، وثراء ثقافتهما اللغوية. وهو سجالٌ أثرى المشهد الثقافي في ذلك الوقت، كما رآه حمد الجاسر، في قوله: «ما جرى بيني وبين الأستاذ الأنصاري، عادَ على حركتنا الثقافيةِ بنوعٍ من الحركة، وإنْ لم تكن في نظرِ البعضِ ذاتُ فائدةٍ عظيمةٍ؛ فإنَّها ولا شكَّ أبرزتْ صورةَ ما يحدثُ بين مُتعاصرينِ، شريكينِ في حِرفةٍ واحدةٍ هي الأدب».
وأمَّا تلميذُ العلَّامة الجاسرِ، الأستاذ محمد رضا نصر الله، الذي كانت بداياتُهُ الأدبيةُ كأُستاذِهِ الجاسر، بواسطة المنهل، فيقول: «في عام 1391هـ = 1371م، أرسلتُ للأنصاريِّ مقالةً عن جبران خليل جبران، مُرفقةً بصورتي، لأجدها منشورةً بعد إرسالها بمدةٍ قصيرة، محقِّقَةً لي أوَّل رغبةٍ في النشر، بل إنَّ اسمي كان مسبوقًا بكلمة: الأستاذ، وقد أثَّرَ ذلك في نفسي كثيرًا، ومنذ ذلك اليوم تحمَّستُ للقراءةِ والكتابةِ والنشر»، وهكذا فإنَّ حفاوةَ الأنصاريِّ بالأقلامِ الأدبيةِ الشَّابة، وتشجيعه لها، وتمكينها من النشر في المنهل؛ كانت من جوانب اهتمامه بحركة الأدب، وحرصه على تطويرها، وتشجيع المنتمين إليها، من كلِّ الأجيالِ والاتجاهاتِ، يقول الدكتور حسن الهويمل: « كانت أوَّل معرفتي بالأنصاري وبمجلته، يوم أعارني المرحوم الدكتور صالح بن سليمان الوشمي، عدد المنهل، في مستهلِّ العقد التاسع من القرن الهجري المنصرم، وحين فرغتُ من قراءة العدد، كتبتُ مقالًا تحت عنوان: (على ضفاف المنهل)، مستعرضًا فيه ما في المجلة من مقالاتٍ ودراساتٍ، كان من بينها دراسةٌ استعراضيَّةٌ لديوان (القلائد)، للشاعر الجازاني محمد بن علي السَّنوسِي، فما كان منه إلا أن احتفى بي وبمقالي، ونشرَهُ وذيَّله بثنائه العَطِر، وتشجيعه للواعدين من الشباب، ووعد بإهداء المجلة والديوان لإعادة قراءته»، ويقول الدكتور حسن الهويمل عن مقاله ذلك: «بأنَّه لم يكن فيه على شيءٍ من النقدِ وضوابِطِهِ، وطرائِقِ التحليلِ والاستنباطِ، فقد كتبتُ دراسةً انطباعيَّةً ذوقيَّةً، فيها كثيرٌ من التَّحاملِ والاندفَاعِ. وطبعيٌّ أنْ لا يروقَ له ذلك العنفُ، من شابٍّ أراد أن يجعلَ منه شيئًا مذكورًا، ولحرصِهِ على إبقاءِ جسورِ التَّواصلِ؛ فقد أعادَ الدراسةَ بخطابٍ رقيقِ الحَواشِي، يذكِّرُني بمكانةِ الشاعرِ، وأُصولِ النقدِ، ويودُّ لو خفَّفتُ من حدَّتِهِ واندفاعِهِ» إلخ. والأديبُ محمد بن علي السَّنوسِي، أديبٌ سعوديٌّ ينحدِرُ من أُسرةٍ علميةٍ، في منطقة جازان، ويعدُّ من روَّاد الحركَةِ الأدبيَّةِ في جنوبِ الجزيرةِ العربية، وحازَ عِدةَ جوائزَ أدبيةٍ؛ تقديرًا لإسْهامَاتِهِ الأدبيَّةِ والثقافيَّةِ، وأصدَرَ عدة دواوين شعرية، وقد أطلقَ عليه الأنصاريُّ لقبَ: (شاعر الجنوب)، وتُوفِّيَ عام 1407هـ = 1987م. وأمَّا ديوانه: القلائد، فصَدَرَ في طبعَتِهِ الأُولى عن دار الكتاب العربي،ي القاهرة، عام 1380هـ = 1960م، ثم صدَرَ ضمن مجموعة أعماله الكاملة، عن نادي جازان الأدبي، عام 1403هـ = 1983م. وكان الشُّداةُ المبتدئون من الأدباء آنذاك، يجِدونَ من التقدير والاحتفاء بهم، بالقَدْرِ ذاته، الذي يجِدُه شيوخُ الأدبِ ورُوَّادِه.
وكم من أديبٍ ومثقفٍ؛ كانت المنهل: أوَّلَ المنافذِ المُشرعةِ لهم للنشر في صفحاتها، والعنايةِ بما يكتبون، وإظهارِهِ للقُرَّاءِ، وكم كان لذلك الصَّنيعِ من أثرٍ في النَّفْسِ، يمدُّها بالثقة والأمل، ويعزِّزُ فيها قيم المعرفة، ومقاصدها، ويدفع بصاحبها نحو الاستمرار والإتقان.
ومن (خدمةِ العِلْمِ والمعرفةِ، وإحياءِ التراثِ، ومسايرةِ موكبَ النَّهضةِ في هذه البلاد) ، الهدفَ الذي نصَّ الأنصاريُّ عليه بركائزه الثلاث، مُدركًا التداخل بينها في الجوهرِ والغايات، في حديثه عن (قِصَّةِ المنهل)، والتزم به فيما عُنيت به المجلة من طروحاتٍ متنوعة، تصبُّ في ذاك الهدف؛ إلى شعارها الذي تزيَّتْ به، وأثبتَتْهُ في ترويستها الرئيسة، منذ صدر أوَّلُ أعدادها: (مجلة تخدم الأدب والثقافة والعلم)، وكان يحثُّ القُرَّاء والمؤسَّسَاتِ الحكومية على الاشتراكِ فيها، ويُشيدُ بمن استجابَ منهم لذلك، ويبذلُ وسعَهُ في أي شأنٍ يسهم في ذيوع المجلة وانتشارها، ونيلها ثقة القراء واهتمامهم، ويمكِّن لها في الأوساط الثقافيةِ في داخلِ المملكة وخارجها.
وقد قام عليها وحدَهُ، دون مساندةِ فريقٍ فنيٍّ يتولى معه مسؤولياتها، وإن لم يعدِم المؤازرةَ الأخوية من بعض أصدقائه؛ الأمر الذي اتضح منه أنَّ الأنصاريَّ؛ لم يكن حينئذ مؤمنًا بالعمل المؤسَّسي بمعناه العام، ولا سيما في المنهل، ولم يكن قد صدَرَ بعدُ نظامُ المؤسَّساتِ الصَّحفية، الذي شكَّلَ طورَا مهمًا في مَسيِرةِ الصحافةِ في المملكة، عندما صدر بعد تلك المدة، وذلك في جمادى الأولى / 1383هـ = نوفمبر / 1963م، وكانت الصحافة في عهدِ الأفرادِ؛ يغلبُ عليها الرأيُ، وهو من الدَّوافعِ الرئيسةِ لإنشائِها، على أيدي نفرٍ من الأُدباءِ السُّعوديين، وبعد صدورِ نظامِ المؤسَّسَات الصَّحَفيَّة، جاء اهتمامُها بالأخبارِ، وما إليها من أبوابِ الصَّحَافةِ التقليديةِ المعهودة، وكان للمنهلِ سياقًا مختلفًا عن هذه المرَاحلِ والتَّحولات. فكان الأنصاريُّ الفَرْد، هو مؤسِّسُ المنهل، ومؤسَّسَتُها؛ يحرِّرُ، ويُدبِّرُ، ويُديرُ، ويكتبُ، ويُكاتبُ الأدباءَ والمثقفين، ويستقبلُ مشاركاتِهم، ويجمعُ الموضوعاتِ، ويبوِّبها، ويراجعُها، ويشرفُ على طباعتِها، وكان ثمَّة نفرٌ من أصدقائه من الأدباء، من زيَّنَ له هذا الصَّنيع، وعدَّهُ مأثرةً للأنصاري، وعظَّمَ من جهده الفردي، في تسيير شؤون المجلة، على نحوٍ من قول الأستاذ حسين عرب (ت 1423هـ = 2002م): «وحسبُكَ أن تعلَمَ أنَّ الأستاذ العلَّامة عبدالقدوس الأنصاري؛ هو المنهلُ، بكلِّ ما في المنهل من مراسلاتٍ ومقالاتٍ علميةٍ وأدبيةٍ، فهو يُنمِّقُها ويُصحِّحُها، ويرد على ما يحتاج الرد، ويعقِّبُ على ما يستحق التعقيب، ويُعاود الكُتَّاب والأدباء بالمراجعة والاستمرار، كلُّ ذلك في صبرٍ ودأبٍ؛ أُشفِقُ عليه منهما، ولكنه - وفَّقهُ الله ويسَّرَ أموره - لا يكَلُّ ولا يمَلُّ في سبيل أداء رسالته، التي هي رسالة المنهل، وهي بثُّ الوعي والثقافة الصحيحة النظيفة، بين أبناء هذه البلاد، والعالم العربي».
وقد آزره في إدارة شؤون المنهل في بدايات صدورها، صديقُهُ أحمد رضا حوحو، وكان الأنصاريُّ دائمَ الإشادةِ بتلك المؤازرة، ومن ذلك قولُهُ في تأبينِ حوحو: «كان صديقًا مخلصًا وفيًّا لكاتبِ هذه السطور، ومؤازرًا حفيًّا بالمادةِ والمعنى للمنهل، يؤثرُهُ على كلِّ مجلة، ويُدافعُ عنه ويتغنَّى به، ويغذوه من جهودِهِ بما يستطيع، وكذلك أصبحَ - تطوُّعًا واختيارًا - سكرتيرًا أمينًا ونشِطًا لإدارة هذه المجلة، يقومُ بشؤونها الكتابيةِ الإداريةِ البسيطةِ، بعد انتهائه من دروسه، ويقومُ علاوةً على ذلك، برفدِها ببعضِ المقطوعاتِ الأدبية المختارةِ من الأدبِ الفرنسي، تطعيمًا وتقديمًا، وكان يُترجمُ هذه المقطوعاتِ فتُنشرُ في المنهل».
وظلَّت مسيرةُ المنهل، وقدرةُ مؤسِّسِها على صونِها ورعايتِها، والرُّقِي بها، ثم استمرارها طيلة (خمسين) عامًا من حياته، في سبيل نشر المعرفة، والعنايةِ بالأدب، وتنميةِ الوعي؛ محلَّ إكبارَ رفاقِه، وإعجاب أندادِه، وأبناء جيله، وتقديرهم، يقول الأستاذ محمد حسن عواد (ت 1400هـ = 1980م): «مجلةُ المنهلِ الذي ظلَّ يُصدرُها طيلةَ ما يقرُبُ من خمسين عامًا، ظاهرةٌ تُسجَّلُ للراحلِ العزيز، إذ فيها صورةٌ رائعةٌ لقدرتِهِ على مسايرةِ جميع التطورات، التي طرأتْ على الصُحُفِ والصَّحافةِ في المملكة، ولعلَّ ما ينبغي أن يُعدَّ من خصائصِ خُلُقِه؛ حرصه أن يظلَّ بمنأىً عن أيِّ موقفٍ يمكن أن يُخرجَهُ عن إطارِهِ كعَالِمٍ تهمُّهُ الحقيقة، وهكذا كانت علاقةُ الأنصاريِّ بالمنهل، على هذا النحو الذي ملكَ عليه حياته، واستوفى طموحه، واستوعبَ حلمه فيها، وآماله منها؛ خدمةً للأدبِ والثقافةِ والعلمِ، وإلى ذلك يقول الأستاذ عبدالله بن خميس (ت 1432هـ = 2011م): «وما عَلمتُ أنَّ مجلةً يُصدرُها ويَحوطُها شخصٌ واحدٌ، قد عاشتْ مثل هذا الوقت، ومرَّتْ على هذه المجلةِ ظروفٌ قاسيةٌ، ولكنه صبرَ وثابرَ، وتحمَّلَ وأنفقَ في سبيلِ حياةِ هذه المجلة».
وفي سياق الحديثِ عن (الظروفِ القاسيةِ)، التي مرَّت بها المنهلُ، ومؤسِّسُها، أثناء مسيرتها؛ ما شهده نفرٌ من مجايليه وأصدقائه، من مواقف تُظهرُ جَلَدَ الأنصاري وصبره، رغم المكابدات التي عاناها، والعقبات التي اعترضته ومجلته، ورغم ما كلَّفَه استمرار المجلة من ديونٍ؛ ولكن عفَّة نفسه، وأَنَفَته، كانت تمنعه من استجلاب الدعم لها، حتى من الدولة، وقد قصَّ الأستاذ عثمان الصالح (ت 1427هـ = 2006م)، غير موقفٍ في هذا الشَّأن؛ يجلِّي تلك الخِلال النبيلةَ في شخصية الأنصاري.
وإلى ذلك، فإنَّه لم يُجمع الأدباء والمثقفون السعوديون، وغير السعوديين، ممن لهم صِلةٌ بالمنهل؛ كَتبَةً، أو قارئين ومتابعين، على أمرٍ؛ قدرَ إجماعهِم على أثرِ مشروع الأنصاري: المنهل، وما قدَّمته للأدب والفكر في بلادنا، سواءٌ بما حفلت به من طروحاتٍ وموضوعاتٍ، أو قدرتها على الاستمرار، رغم كل العراقيل والأزمات التي مرت بها، يقول الدكتور محمد الشامخ: « عَكَفَ عبدالقدوس الأنصاري على مجلته المنهل، نصف قرنٍ من الزمن، يرعى سَيرَها بثقافته العظيمة، ويوجِّه خَطْوها بخُلُقِه الرَّضيِّ النبيل، نصف قرنٍ من الزمنِ؛ لم تعرف المنهل خلاله الالتواءَ في الفكر، أو التَّلَوُنَ في الهدف، فكانت المنهلُ بعد هذا خزَّانًا لتاريخنا الفكري، والأدبي، وصارت منبرًا فكريًّا يلتقي مِنْ حولِهِ الكُتَّابُ من جميعِ أنحاءِ هذه البلاد» .
وامتداد عطاء المنهل طيلة تلك السنوات، وتراكم تجربتها في ميدان الصحافة الثقافية، وإثراءها مشهد الثقافة الوطني، ووصولها إلى كثيرٍ من الأقطار العربية، بذلك القَدْرِ من العمقِ والتَّنوعِ في مباحثها؛ مسألةٌ توقَّفَ عندها الدارسون، وتأمَّلوا أسبابها، وانتهوا إلى أنَّ من أهمِّها، همَّةُ صاحبها، وحِكْمتُهُ في تجاوز الصعوبات التي مرَّت بها، ونهجه المتوازن في تسيير شؤونها، وهو يرقُبُ عن كثب، ما بلغته من مكانةٍ، وما حازته من مكاسب ثقافيةٍ ومعرفيةٍ، يقول الدكتور عمر الطيب السَّاسي: «ولو لم يكن لأستاذنا الجليل عبدالقدوس الأنصاري، من فضلٍ سوى إصدارِ المنهل، والمحافظةِ على مستواه الرفيع، في جميع أعداده، خلال هذه الفترة من عُمرِ المجلات؛ لكان هذا وحده أعظمَ إسهامٍ في صنع تاريخ بلادنا الأدبي والثقافي الحديث والمعاصر»..
- يتبع