د.حسن مشهور
عند تأمل تلك العلاقة الحاضرة التي ينتظم في عقدها الأديب المشتغل بصنعة أدبية ما والناقد الأدبي، فسنلحظ بأنها علاقة تتسم في أغلبيتها بالتوتر وعدم القبول النفسي لما يخطه الناقد في الأغلب خاصة حين يكون ينحو الناقد صوب الموضوعية، ولا يلتفت بأي حال لشخص المبدع بحيث يثني على موهبته ويكيل له المديح على ما يتفتق على يديه من كتابة أدبية. في حين أن الأديب الذي يرغب في تطوير أدواته الإبداعية، عليه أن يعي بأن أحد السبل لتحقيق ذلك يتم عبر مطالعة ما يكتب عن نتاجه من نقد موضوعي هادف.
واعتقد جادًا بأن العمل الإبداعي الجيد يفرض نفسه على ذائقة الجميع سواء منهم الناقد أو القارئ الهدف. كما ان الخروج من دوامة التضاد بين ما يتوق لسماعه عن نتاجه المبدع وبين ما يخطه بيراعه الناقد، يتمثل في تقديري أن الناقد يتوجب عليه أن يوظف مناهج النقد الحديثة في عباب النص الذي يطالعه، فأغلب ما أطالعه من نقد أدبي في ساحتنا الثقافية الأدبية السعودية يكون نقدًا انطباعيًا لا يركن إلى أي مدرسة معروفة من مدارس النقد الأدبي الحديث.
وهذا الأمر يعود في تقديري لصعوبة التعاطي والتوظيف للمنهج النقدي العلمي إن لم يكن لدى الشخص دراية جيدة بلغة أجنبية ويكون قد أمضى أعواما في دراسة النقد الأدبي العلمي الحديث على اختلاف مدارسه وتوجهاته.
ومن الجيد أن يعمد الناقد في بعض الأحيان إلى توظيف انطباعيته خاصة وأن له ذائقة أدبية كغيره من المتلقين ولكن ينبغي أن يكون هذا الصنيع منه يتم بالقدر الملائم. وعند تأمل بعض من نقدنا العربي القديم فسنلحظ بأن رغم انطلاقه من منهجية كانت السيادة فيها للانطباعية والذائقة الشخصية، إلا إن قد كانت تركن أيضًا لأنساق التشكيل الفني التعبيري التي تعارف عليها شعراء العرب الأوائل. ومن ذلك ما قام به النحوي الكبير أبو الفتح عثمان ابن جني في تعاطيه مع شعر أبي الطيب أحمد بن الحسين المتنبي، الأمر الذي دعا أبا الطيب لإطلاق مقولته الشهيرة: (ابن جني أعلم بشعري مني).
وعند تأمل تلك العلاقة التي ربطت بين المتنبي وابن جني فسنجد بأنها قد مثلت أنموذجًا فريدًا في تاريخ الأدب العربي، بحيث إن هذه الرابطة أو العلاقة قد تولد عنها حوار إبداعي مؤثر وعميق بين الشعر من جانب والنقد الأدبي من جانب آخر. وهي علاقة نوعية لم يكن فيها ناقدنا ابن جني شارحا لديوان المتنبي فقط، بل قد كان قارئًا استثنائيًا استطاع أن يميط اللثام عن مربعات الإبداع في شعر المتنبي من خلال توظيف منهجية نقدية قد وصفها بعض النقاد المرحليين بأنها قد سبقت عصرها. ويتضح لي من خلال تأملها -أي هذه العلاقة الأدبية- بأن شعر المتنبي قد أخذ بعقل وروح ابن جني حتى صدح بالقول واصفًا المتنبي بأنه «أعجوبة الدهر» في اللغة والفصاحة.
إلا أن هذا الإعجاب الذي قد كان له الحق في أن يبديه وطبيعة العلاقة التي تمظهرت على شاكلة التلميذ ابن جني بالأستاذ أبي الطيب الذي كان يكبره بقرابة عشرين عامًا، لم تمنع ابن جني من أن يكون موضوعيًا فيه تعاطيه النقدي مع شعر المتنبي وأن ينقد بعض مواطن الضعف فيه. كما إن لهذه العلاقة وجها أدبيا آخر قد كان للمتنبي منه الحظ الأكبر وتمثل في اعتماده على معرفة ابن جني اللغوية في صقل بعض مفرداته، خاصة في مرحلة عيشه في مدينة حلب.
ويمكن لنا رسم أبرز ملامح منهجية ابن جني في تعاطيه النقدي مع شعر المتنبي في ثلاثية تفكيكية تمثل ضلعها الأول في التحليل اللغوي الذي ركز فيه ابن جني على تحليل الانزياحات اللغوية عند المتنبي Deviation، التي ضمنها في كتابه الشهير «الخصائص»، مطبقًا في ذلك مقاربة نقدية أشبه بما خرج به الفيلسوف والناقد الفرنسي الشهير جان كوهين في نظرية الانزياح التي تناولها بالعرض في كتابه الشهير «بنية اللغة الشعرية». في حين يتمثل المضلع الثاني لمنهجية ابن جني في تعاطيه النقدي مع شعر أبي الطيب المتنبي في الكشف عن الطبقات الدلالية والتي منها دلالة التوازي Parallelism، التي بين ابن جني بأنها قد تمظهرت بين العناصر الحربية (السيف، الرمح) والعناصر الثقافية (القرطاس، القلم)، في شرحه لبيت أبي الطيب المتنبي الشهير «الخيل والليل والبيداء تعرفني والسيف والرمح والقرطاس والقلم».
ويأتي المرتكز الثالث في منهجية ابن جني النقدي التفكيكية لشعر المتنبي متمثلًا في تبنيه للموضوعية البحتة Objectivity، في شرحه ونقده لشعر المتنبي. بحيث نجده لا يتردد في توجيه النقد لبعض استعارات المتنبي، والتي منها ما ورد في بيته الشعري، «فِي الْعِزِّ أَيْضًا لَهُ الْبَيْتُ الْعَتِيقُ» حيث رأى ابن جني بأن تشبيه «العز» «بالبيت العتيق» فيه تكلف.
وعند إعمال العقل في هذه العلاقة الأدبية الثنائية التي ربطت بين شعر المتنبي ونقد ابن جني سندرك بأنها قد تركت أثرًا ملحوظًا في التراث النقدي العربي ينهض على الشرح النقدي التحليلي (لا المجردة) بحيث قد وضع الأساس والمرتكز لمنهج «النقد التطبيقي» الذي يربط بين اللغة والأدب. وهو منهج قد مثل خريطة الطريق لمن أتى بعده وكان نقطة الانطلاق نحو نقد أدبي هادف وموضوعي. وحالة من التكامل بين الإبداع الشعري والتحليل النقدي. بحيث لم يبدو فيه ابن جني مجرد ناقل لكلام المتنبي، بل كان قارئًا يمتلك رؤية نقدية مستقلة، أثْرَتْ فهمنا لشعر المتنبي وأسهمت في تطوير المنهج النقدي العربي. هذا إلى جانب أن موضوعية ابن جني «الناقد»، لم تغضب أبا الطيب «المبدع»، أي إن هناك قد كان يكمن لدى الرجلين تعاليًا ورقيًا أخلاقيًا وفهمًا لدى المبدع (المتنبي) لأهمية الناقد (الشارح) في توليد كثافة حضورية للنص الشعري في ذهنية العامة (القراء)، بحيث إنه لم يفسر الأمر أو يحمله على محمل شخصي كما يحدث أحيانًا في ممارساتنا الثقافية الأدبية المعاصرة.