خالد محمد الدوس
يعد عالم الاجتماع العربي الراحل الدكتور علي الوردي أحد أبرز علماء الاجتماع في العالم العربي في القرن العشرين.. ومن الرواد الأفذاذ الذين أثروا مكتبة علم الاجتماع العربية بمنجزاتهم العلمية.
ولد هذا العالم عام 1913 في محافظة بغداد في منطقة الكاظمية على وجه التحديد، حيث نشأ في عائلة متواضعة الحال وكان جده يعمل في صناعة تقطير ماء الورد (وهو نوع من العطور) ومن هنا جاء لقبه الوردي..! عايش العالم الراحل البيئة الشعبية البغدادية بكل تفاصيلها وتحولاتها مما أثرى ملاحظاته وانطباعاته الأولى عن المجتمع العراقي صاحب الحضارة والعمق الثقافي مما انعكس على لغة أبحاثه العلمية السوسيولوجية الرصينة وفكره الاجتماعي العميق.
درس د. علي الوردي المرحلة الابتدائية، وترك الدراسة قسراً، ليعمل صانعا عند صاحب عطارة ولكنه طرد من العمل لأنه كان ينشغل بقراءة الكتب والمجلات ويترك الزبائن وبعد ذلك فتح دكانا صغيرا يديره بنفسه وفي عام 1931 التحق بالدراسة المسائية وأكمل دراسته إلى أن نال شهادة الثانوية وحصل وبتفوق على المرتبة الثالثة في العراق ثم ابتعث إلى لبنان ودرس في الكلية الأمريكية في بيروت (AUB)، ونال البكالوريوس في الرياضيات عام 1938م ثم بدأت فكرة التحول إلى علم الاجتماع أثناء وجوده في بيروت بعد أن تأثر بأساتذة علماء الاجتماع بذات الكلية فقرر تغيير مجاله واتجاهاته العلمية فابتعث إلى الولايات المتحدة الأمريكية بعد أن حصل على بعثة حكومية لدراسة الماجستير في جامعة تكساس المخضرمة في ولاية أوستن ونال الماجستير في علم الاجتماع عام 1948 ثم واصل رحلة طلب العلم ونهل المعرفة السوسيولوجية من ذات الجامعة ونال شهادة الدكتوراه في علم الاجتماع عام 1950م وكانت أطروحته العلمية بعنوان: «نظرية ابن خلدون في الاجتماع: دراسة نقدية وتحليلية» والتي نشرت لاحقا ككتاب وأصبح مرجعا أساسيا في دراسة فكر العلامة عبدالرحمن ابن خلدون الأب الروحي لعلم الاجتماع ومؤسسه الحقيقي. وبعد عودته لوطنه العراق وهو مرصع بالعلم والمعرفة في علم الاجتماع عيّن أستاذا في قسم علم الاجتماع في كلية الآداب بجامعة بغداد وذلك في النصف الأول من عقد الخمسينيات الميلادية من القرن الفائت وأصبح يشكل الرقم الصعب وأحد أعمدة علم الاجتماع الحديث في بلد الرافدين (العراق) وساهم بعقلية العالم الفذ في تأسيس المنهج العلمي في دراسة الظواهر الاجتماعية كما كان له تأثير كبير على أجيال من الطلبة والباحثين في ميدان أبو العلوم الاجتماعية (علم الاجتماع) رغم أن أفكاره كانت مثيرة للجدل أحيانا..!!
تميز الأب الروحي لعلم الاجتماع العراقي (علي الوردي) بعدة خصائص في منهجه الفكري والمهني والعلمي حيث اشتهر بنظرية الازدواجية الاجتماعية وتعد أبرز نظرياته على الاطلاق، فقد كان الوردي يرى أن الشخصية العراقية تعيش صراعا داخليا بين قيم متناقضة، كما تناول في أبحاثه الرصينة قيم البداوة ووصفها بأنها تتصف بالشجاعة والفردية والعصبية والكرم وحب السيادة. فيما تتصف قيم الحضارة بالاستقرار والتعاون والطاعة والتخصص والاعتدال.
كان يرى -في زمانه- أن بعض المجتمعات العربية لم تتحول تحولا كاملا من البداوة إلى الحضارة بل لا تزال تعيش بقايا القيم البدوية في بنيتها التحتية مما أوجد تناقضا في السلوك والتفكير..! كما ركز على اللا منطق في التاريخ والمجتمع وأولى اهتماما كبيرا بالعوامل غير العقلانية (العواطف- الخرافات- العصبيات) في تحليل الأحداث التاريخية والظواهر الاجتماعية معتبرا أن المنطق وحده لا يكفي لفهم المجتمع.
خصص العالم الوردي جزءا كبيرا من أبحاثه في تحليل السمات النفسية والاجتماعية للفرد العراقي مثل المزاج الحاد وسرعة التأثر، التناقض بين القول والفعل، وكان مطلعا بشكل عميق على نظريات العلامة ابن خلدون خصوصا مفهومي العصبية والبداوة والحضارة وطورهما وطبقهما على الواقع المعاصر.
وفي سياق مؤلفاته وإنتاجه العلمي الغزير وهي أكثر من خمسة عشر كتابا ومئات البحوث والمقالات العلمية في مجالات العلوم الاجتماعية.. فقد ألف الوردي العديد من الكتب التي أصبحت ركنا تنويريا في الفكر الاجتماعي العربي ومن أبرزها: لمحات اجتماعية من تاريخ العراق الحديث (8) أجزاء: موسوعة ضخمة تعد أهم عمل توثيقي وتحليلي للتاريخ الاجتماعي العراقي في القرون الأخيرة، كتاب شخصية الفرد العراقي، وكتاب منطق العلامة ابن خلدون (وهو أطروحته للدكتوراه)، وكتاب الأحلام بين العلم والعقيدة، وكتاب مهزلة العقل البشري، وكتاب أسطورة الأدب الرفيع، وقدم أكثر من 150 بحثا مودعة في مكتبة قسم علم الاجتماع في كلية الآداب جامعة بغداد.. ورغم ما قدمه العالم الراحل د. الوردي من إسهامات علمية ومنجزات سوسيولوجية أثرت مكتبة علم الاجتماع العربي فقد تعرض للهجوم والنقد اللاذع من قبل القوميين واليساريين بسبب تشكيكه في بعض المسلمات الفكرية والأيديولوجية، وتركيزه على العوامل النفسية والاجتماعية، بدلا من العوامل الاقتصادية والسياسية فقط..!!
وبعد مسيرة عامرة بالمنجزات العلمية والإسهامات الثرية في تأسيس علم الاجتماع الحديث في العراق توفي العالم (د. علي الوردي) في عام 1995 في بغداد بعد صراع مع المرض تاركاً إرثاً كبيرا لا تزال كتبه تطبع وتوزع على نطاق واسع في العالم العربي ونظرياته تدرس في بعض الجامعات العربية، ولذلك كان العالم الراحل ظاهرة فريدة في المشهد الفكري العربي، كان عالم اجتماع ومؤرخا وناقدا اجتماعيا ومفكرا مثيرا للجدل قدم خلال العقود الطويلة التي أمضاها داخل الصروح الأكاديمية أدوات تحليلية جديدة لفهم التعقيدات والتناقضات في المجتمع العربي بعد أن دمج في دراساته وأبحاثه وأطروحاته الغنية بين علم الاجتماع وعلم الإنسان (الأنثروبوجيا) وعلم النفس والأدب والفولكلور والثقافة والتاريخ.. جاعلاً هذا التكامل واقعيا وعلى طريقة العلامة ابن خلدون في تحليلاته الاجتماعية وبالتالي لم يكن العالم الراحل «الوردي» مجرد أستاذاً جامعياً أو مفكراً بارعاً.. بل كان ظاهرة فريدة جمعت عمق البحث الأكاديمي ورشاقة الأسلوب الأدبي، والحس السوسيولوجي الرفيع ورصانة الطرح العلمي والمهني.