عبدالله العولقي
في إحدى ليالي الشتاءِ قارسةِ البرد، وبينما الثلوجُ تتساقطُ على العاصمة الروسيةِ موسكو، خرجَ السجناءُ التسعة إلى الساحة الكبرى في وسط المدينة، وهناك تمّ ربط كلَّ واحدٍ منهم بعمود، كان الناسُ يتوافدون فرادى وأفواجاً إلى الساحةِ لمشاهدة حُكْم الإعدام رمياً بالرصاص بهؤلاء السجناء، وبينما كان العساكرُ يتأهّبون بتصويب بنادقهم إلى المحكومين وإذْ بمبعوث الإمبراطور يأتي بالبريدِ مسرعاً ليأمر بوقف التنفيذ، كان البيانُ الامبراطوري ينصُّ على تخفيف الحكم إلى الأعمال الشاقة والسجن في صحراء سيبيريا الباردة، تنفّس السجناءُ الصعداءُ وبدأوا يشعرون وكأنّ حياةً جديدةً قدْ فَتحتْ أبوابهَا لهم، وكان من بين هؤلاء السبعة الكاتب الروسي الشهير فيودور ديستويفسكي.
نُقل ديستويفسكي مُكبّلاً بالقيودِ إلى سِجْن سيبيريا وقضى هناك أصعب أيّام حياته، لقدْ كانت أطرافُه ترتعدُ ليلاً ونهاراً من شدّة البرد، لمْ يستطعْ الكاتبُ المرهفُ أنْ يحتملَ كلّ هذه الظروف القاسية فأُصيب بانهيارٍ عصبيٍ تام، وبدأتْ تظهرُ عليه علاماتُ التشنج العصبي وأماراتُ الصرع، وأمام تفاقم حالته المرضية تمّ الإفراج عنه، فعاد إلى مدينته سانت بطرسبرغ، لقدْ عادَ من سيبيريا ونفسُه مثقلةٌ بمشاهد الأسى والأوجاع التي عايشها في تلك الصحراءِ الباردة، وبعدما استقرّ في بلدته كتب رائعته الشهيرة (بيت الموتى) التي تناول فيها وحشيّة الحياة وتجربته المريرة في صحراء سيبيريا الباردة، لقدْ وصلت هذه الرواية إلى امبراطور روسيا الاسكندر الثاني الذي كان يقرأ فصولها وأحداثها والدموعُ تنهمرُ من عينيه، لمْ يُصدّق أنّ هذه المآسي تحدث في تلك الصحاري البعيدة!، فأصدر على الفور تعليماته الجديدة التي أنهتْ كلّ تلك الأوضاع الصعبة هناك!!.
بعد عودته إلى سانت بطرسبرغ بدأتْ آثارُ المرض النفسي تتطور سريعاً على سلوكه اليومي، وبدا الكاتبُ مُتعَباً شاحباً أمام أسرته وأصدقائه فنصحوه بالزواجِ والاستقرار، فتزوج عام1857م، وفي ليلةِ الزفاف السعيدة وبينما الزوجة تستقبلُ التهاني من الحضور بابتسامةِ العروس السعيدة لمحتْ تغيّراً عنيفاً في ملامح وجه زوجها، فتحوّلت ابتسامتُها إلى قلقٍ وخوف، وماهي إلا لحظاتٌ معدودةٌ حتى بدأتْ نوبةٌ عنيفةٌ من التشنجات تضربُ جسدَ زوجها ديستويفسكي، بدأتْ بالصراخ وشرع الجميعُ يتهامسون فيما بينهم عمّا يحدث؟، أمّا ديستويفسكي فقد سقط على الأرض وجسده يضطربُ بعنفٍ من آثار نوبةِ الصرع!، باتتْ زوجتُه تلك الليلة في رعبٍ شديد، أما فترة زواجهما فلمْ ينعم الزوجانِ بالاستقرارِ أبداً، بلْ بدأتْ الخلافاتُ والمشاحناتُ تتزايد بينهما يوماً بعد يوم حتى وفاتها، أما زواجه الثاني فكان من سكرتيرته آنا دوستويفسكايا التي تصغره بـ25 عاماً، وأنجب منها أربعة أبناء، وقدْ صبرتْ عليه وتحمّلت كل سلوكياته المضطربة ومرضه وتشنجاته، فكانت نِعْمَ الزوجة له، لقد كان يتقاضى مبالغ باهظة من عائد رواياته لكنّ الروائيَّ البائس كان مُقامراً بأمواله إلى درجة الإدمان، فضاعتْ كلُّ تلك الأموال في وحل المقامرة، فبدأ بالاستدانةِ من أصحابه ورفاقه حتى تراكمتْ عليه الديونُ وأصبحَ عاجزاً عن السداد، بل إنه أصبح مهدداً بالسجنِ إنْ لمْ يُسدّدْ كلّ تلك القروض الواجبة عليه، وهنا وقفت زوجته آنا دوستويفسكايا أمامه بصرامةٍ شديدةٍ منْ أجل ردْعه عن سلوكيّاته المتهوّرة ولكنْ هيهات هيهات، فلمْ يكنْ ديستويفسكي مريضاً بالصرعِ فحسبْ، بلْ كانَ مريضاً بهوس القمار أيضاً، لقدْ رهنتْ زوجتُه آنا خاتم زواجها ومستلزماتها الشخصية من أجل مساعدته في حلّ بعض مشاكله المالية التي لا تنتهي!!.
لقدْ أودع ديستويفسكي تجربته المريرة مع القمار في روايته الشهيرة (المقامر) عام 1866م، وقد ساعدته زوجته آنا كثيراً في إنهاء تلك الرواية القصيرة!!، وفي نفس العام كان قد كتب إحدى أهمِّ وأشهرِ أعماله الروائية (الجريمة والعقاب)، ورغم العائد الضخم الذي حصل عليه من دار النشر إلا إنّ ضائقته المالية لمْ تنتهي بسبب تراكم الديون المتكالبة عليه، كما أنّ مرض الصرع التشنّجي ونوباته المتكررة قدْ أثّرت كثيراً على حالتِه الصحيّة، والغريب العجيب أنّ روائعَ أعماله العالمية وابداعاته الروائية كانت متزامنة مع معاناته الشديدة مع المرض!، فكان يُصاب بأربع نوبات شهرياً منذ أوائل عام 1877م!!.
كان في آخر أيامه يعيشُ على ذكرى طفولته مع والديه وإخوته، فيعودُ به شريطُ الذكريات البعيدة إلى والده الطبيب الصّارم، ووالدته الحنونة الطيبة التي زرعتْ في طفلها الحسّ الروائي، لقد كانتْ تروي لأطفالها القصص الشعبية والحكايات التي تختلقها من خيالها الواسع بأسلوبها الجذاب الشيق حتى خلقتْ في روح ديستويفسكي عشق الكتابة الروائية وفنّ الحبكة والسرد القصصي، لقد كان الكاتبُ الكبيرُ يدينُ لأمه بالكثير من الموهبة، وحينما التحقَ في الجيش مهندساً عسكرياً كان يهربُ من التزاماته ومهامّ عمله إلى المكتبة، هناك حيثُ يجدُ روحه الهائمة بين صفحاتِ الكتب، لقد كان يلتهمُ الروايات ويتأمل سردها الروائي بصورةٍ دقيقةٍ جداً، وقد ساعدهُ على ذلك انطوائيته وعزلتهِ عن المجتمع، فكان يُدمنُ كثيراً المطالعة في علم النفس والأساطير والطب والأدب والشعر حتى رثى لحالته أهله ومعلّموه!، ويُحْسبُ له أنه وظّف كلّ هذه المطالعات بإبداعيّة متناهية داخل رواياته وقصصه!!.
كان منظرُ الفقراء والمعدومين يُثيرُ اهتمام ديستويفسكي داخل روسيا، فكانَ يتألّمُ لآلامهم ويتوجع كثيراً منْ أوضاعهم، لقد كان إحساسُه بالألم مفرطاً لدرجة أنه خصّص لهذه الفئة رواية كاملة أسماها (الفقراء)، فلمْ يكنْ إحساسُه بالألمِ عادياً بلْ كان مُبالغاً لدرجةٍ أوصلته إلى مرض الصرع والتشنج العصبي!! ، ومنْ يقرأْ رواياته وأعماله الأدبية يتفاجأْ بمقولاتٍ إنسانيةٍ رائعةٍ قدْ خلّدها ديستويفسكي على لسانِ أبطاله وهي اليوم تتداولُ على ألسنة الناس في العالم أجمعْ، لقد عابَ عليه النقادُ استغراقه الطويل في التفاصيل العارضة ووصف الحالة النفسية لأبطال رواياته بصورةٍ مبالغة، فكان يكتبُ الرواية بعنايةٍ شديدةٍ حتى يستطيع أنْ يتحكّمَ في إيقاع الزمن، فيقف مع القارئ في أدقّ التفاصيل عنْ شخصيّات الحكاية، كيف تُفكر الشخصية؟ وكيف تشعر؟ وكيف تتصرف سلوكياً؟، حتى يُعطي القارئ فهماً أكثر للناس وللعالم!!، وهنا نقول إنّ القارئ حتى يتمكن من العيش بمتعةٍ في عالم ديستويفسكي الروائي لا بدّ له أنْ يتدرج في قراءة أعماله من الروايات القصيرة حتى يصلّ إلى رواياته الطويلة، فيبتدئ مثلاً برواية الليالي البيضاء والمقامر والفقراء والأبله وهكذا حتى يصل إلى الجريمة والعقاب والأخورة كارامازوف.
وفي سنواته الأخيرة برز اسم ديستويفسكي في سماء الأدب الروسي وأصبح علماً له مكانته الكبيرة في موسكو، فدعاه القيصر الاسكندر الثاني لتناول العشاء معه في القصر الامبراطوري، واشتدت المنافسة بين الصحف الروسية والمجلات الأوروبية على إجراء اللقاءات مع هذا الأديب الكبير، وكان الناس يقصدونه يومياً في بيته من أجل السلام عليه، وفي عام 1921م احتفلت روسيا بمرور قرن على ميلاده، وهناك كتبت ابنته لوبوف مذكراتها الشهيرة (أبي فيودور ديستويفسكي) والتي لا تزال حتى اليوم مرجعاً مهماً لسيرة ديستويفسكي وحياته العائلية رغم أنه توفي وهي في الثانية عشرة من عمرها!!.
وعندما بلغ الستين من عمره، أُصيب بنزيف رئوي حاد وقد أبلغه الأطباء أن نهايته قدْ حانت، وحينها جمع كلّ أبنائه حوله منْ أجلِ رؤيتهم قبل موته، وفي 9فبراير عام1881م ودّع ديستويفسكي دنياه، وفي يوم دفنه حضرتْ مدينة بطرسبرغ بأسرها، وتوافد الناسُ من جميع المدن الروسية لحضور تشييع الكاتبِ الكبير، وامتلأ شارع النيفا بالجموع الغفيرة التي تجاوزت المائة ألف شخص، مما اضطرّ الأمن الشرطة إلى إغلاق بوابات المدينة لوقف تيار القادمين إلى الجنازة، وقد كتب أحدُ النقاد حينها: يُمكنُ القولَ بكلّ شجاعةٍ أنه قبل ذلك اليوم لمْ تشهد روسيا على الإطلاق مثل هذه الجنازة، لقدْ جاءوا تقديراً لكاتبهم المفضل، فقد كانت وفاته بمثابة الصدمة للمجتمع الروسي خصوصاً أنّ السنوات الأخيرة لديستويفسكي شهدتْ روائع أعماله الخالدة، فكانتْ وفاتُه بعد أسابيعَ معدودةٍ من انتهائه من رواية (الأخوة كارامازوف)، لقد مات الكاتبُ الكبير في شقةٍ متواضعةٍ في المنزل رقم 5، حيث يقعُ الآن المتحف الذي يحمل اسمه، ويقصده الزوّار والسيّاح من جميع أنحاء العالم.
في عام 1880م وقبل وفاة ديستويفسكي بعام واحد، أقامت روسيا حفل تأبين جماهيري لشاعرها العظيم بوشكين، ودُعي لهذا الحفل كبار أدباء روسيا، وعندما ألقى ديستويفسكي خطابه الشهير ضجّ الميدان كله بالتصفيق الحار!، وعندما ختم خطابه قائلاً: لقد مات بوشكين في أوج قوته وعطائه، وحمل معه إلى القبر سراً كبيراً، وها نحن الآن مدعوون لأن نفهم هذا السر بدونه!، وهنا هجمت الجماهير على ديستويفسكي وتهافتت للسلام عليه وتحيته، لقد خطف الأضواءِ على كل الموجودين وغطّى حضوره على كل أدباء روسيا الكبار وحتى على بوشكين نفسه!، لمْ يتغيّبْ عن هذا الحضور إلا تولستوي عظيم الأدب الروسي، وحسناً ما فعل!، فربّما لو جاء لكان في موقفٍ مُحرجٍ أمام نجوميّة ديستويفسكي!!.
وفي الختام: يُعدُّ ديستويفسكي أحد أهمّ أقطاب الرواية في العصر الحديث، ليس في روسيا وحدها وإنّما في العالم كله، بلْ أصبحتْ مقولاته دستوراً عند بعضِ المُعجبين بأدبه ورواياته، لقد استطاعَ هذا الأديبُ الفذُّ أن يُشرّح النفس الانسانية وينفذُ إلى أغوارها العميقة، ويكتشفُ دخائلها ونوازعها ويُعبّر لنا عن سلوكها بصورةٍ أدبيةٍ فائقة الروعة والجمال، فلا تزالُ روائعُه الأدبية تتربعُ على قائمة كلاسيكيات الأدب العالمي، ويكفي أنها تُرجمت لمعظم اللغات البشرية، وهذا إنْ دلّ فإنما يدل على القيمة الأدبية والانسانية التي وصل لها هذا الأديب الانسان بين أدباء العصر الحديث.