حامد أحمد الشريف
قد لا أُلام كثيرًا إن ترددت في اقتناء مجموعة قصصية، والشروع في قراءتها فضلًا عن التحدث عنها، فالغث غلب كثيرًا على السمين؛ في السنوات الخداعات الأخيرة، لعدة أسباب، منها فساد الذائقة القرائية التي تسهم بطريقة غير مباشرة في ظهور هذا النوع من الكتابات غير الجيدة، نتيجة تغييب دور النقد الموضوعي، وتفشي المجاملات، واتخاذ بعض النقاد الأكاديميين المنصات والمساحات منبرًا لتمجيد فكرهم وأقلامهم أو تصفية حساباتهم أكثر من اهتمامهم بالنصوص، كذلك استسهال بعض الكتاب كتابةَ القصة القصيرة، مع عدم قدرتهم على التفريق بينها وبين الحكاية، وانخداع كثير من المتلقين باللغة الأدبية الرصينة، واعتقادهم أنها كافية لتدوين نصوص قيِّمة رغم الإخلال البين بقواعد كتابة القصة، والأهم من ذلك كله غياب الفهم الحقيقي لمرتكزات كتابة القصة القصيرة، وبنيويتها السردية والقواعد المتفق عليها تنظيريًا وكتابيًا، التي تقلل من تجاوزاتها الكتابية إذا طبقت بشكل صحيح، وكل ذلك يقودنا بالطبع من وجهة نظري المتواضعة لاتباع منهجية محددة في التعاطي مع النصوص، بعيدًا عن كُتَّـابها، بل الأهم من ذلك تجريدها من تعالقاتها الثقافية والاجتماعية، أي الذهاب باتجاه نظرية رولان بارت في تغييب المؤلف كلية، بامتداداته داخل النص وخارجه، والاكتفاء بالحديث عن النصوص من داخلها، أو كما يقال إعادة إنتاج النصوص في مخيلة القارئ، اعتمادًا على لغة النص الأدبي وسميائياته، والتقنيات الموظفة في بنائه السردي، ومستويات قراءته المتعددة، ويقينًا يصعب تطبيق كل ذلك إلا مع نوعية النصوص الجيدة، التي تسمح لك كمتلقِّ وقارئ، بالغوص في ثناياها والعثور على كنوزها، وهذا باختصار شديد ما وجدته في مجموعة «حادثة غرام» للكاتبة المبدعة، هبة يوسف، ودفعتني لتخصيص هذا المقال للحديث عنها، وسأكتفي خلال هذه المساحة القرائية بوصف الكاتبة بالمؤلف مع كامل التقدير لصانعة هذا الإبداع لكونها أنجزت ما عليها وتركت الأمر بأيدينا الآن نتناوله بمعزل عنها.
كما أود الإشارة إلى أن حديثنا عن المجموعات القصصية، يختلف كلية عن الروايات التي يتم تناولها من قبل النقاد ككتلة واحدة، كلٌّ من زاويته، بينما نتعاطى مع المجموعات القصصية كشذرات متفرقة، لا علاقة لها ببعضها، ويفضل الحديث عنها بشكل مستقل؛ إلا إذا استخدمت القصص للتعريف بمنهجية الكاتب، والجامع المشترك لأسلوبه الكتابي، وهو نهج نقدي يتبعه بعض النقاد، بل نجد أن بعضهم يربط كل أعمال الكاتب ببعضها، ونجد هذا الربط أيضًا في أمسيات الاحتفاء بالمؤلف بعيدًا عن النقد، كحفلات تدشين الكتب وخلافه، وأيضًا نجدها ضمن النقد الثقافي أو الاجتماعي لمجتمع ما، انطلاقًا من المنتوجات الثقافية التي ضمنها يقينًا، الكتب وكُتابها المميزون.
واعتمادًا على كل ذلك، فأنا أفضل لتحقيق الفائدة القصوى من الدراسات والمقالات النقدية تناول القصص القصيرة بشكل مستقل، أي التعامل مع كل قصة كحالة إبداعية منفصلة، تدرس بمعزل تام عن بقية أخواتها، هذا التوجه يدعمه تباين مستوياتها في الغالب الأعم، ونذرت المجموعات التي تحوي قصصًا بذات القوة والقيمة مهما كانت مكانة كاتبها، فنحن كما هو معلوم نقصر حديثنا غالبًا على قصص بعينها كقصة «نظرة» وقصة «الشهادة» ليوسف إدريس، ولا نذكر مجموعة «أرخص ليالي» التي حوتهما، إلا من باب التفريق بين المراحل التي عاشها الكاتب وشهدت تذبذب مستوياته الكتابية، والتحولات التي عصفت بها، أو في حديثنا عنه انطلاقًا من كتبه، وهي الحال نفسها مع تشيخوف الذي نطريه من خلال قصص بعينها وليس مجموعات، فنذكر قصة «موت موظف» وقصة «المغفلة» وبقية قصصه العظيمة التي تركت بصمة في تاريخ القصة القصيرة العالمية، وهو الحال نفسه الذي نمارسه مع نص «ستة رجال وفتاة» لإحسان عبدالقدوس متجاوزين مجموعة «صانع الحب» التي احتضنته، ولعل هذا يكون مدخلنا للحديث عن مُؤلّف «حادثة غرام»، بقصر الحديث على قصتين استوقفتاني كثيرًا، وأريد التعريف بهما؛ وتناولهما بشكل تشريحي، حتى تعم الفائدة، ويوظف النقد للتعلم، بدلا من أن يكون خادمًا للناقد أو الكاتب، وبعيدًا كليةً عن النص موضع الحديث، أو يكون حديثَ عموميات لا يستفاد منه… ولعلي أختم هذه الجزئية بالإشارة إلى ضرورة عدم تعالي الكُتاب على النقد الهادف، والبحث فقط عن عبارات الثناء والمديح، في وقت ينبغي الاجتماع حول النصوص في حديثنا النقدي، وفي تقبل الآراء الموضوعية، مع تسليمنا بأنها ليست حقائق مطلقة وإنما مجرد آراء وأذواق قد تصيب وقد تخطئ، إذا ابتعدنا عن المرتكزات الأساسية التي تقوم عليها الأجناس الأدبية، وينبغي عدم التهاون في حقها، فالحديث عن القصة القصيرة لا يكون إلا بعد اكتمال أركانها.
وقبل الانطلاق مع القصص المنتقاة للتعريف بتجربة المؤلف الفريدة، أود التعريج على سمة بارزة، حضرت في معظم قصص هذه المجموعة، تستحق التنويه عنها، تتعلق بقدرة المؤلف على التخييل وبلورة الأفكار المحورية والفرعية، واختيار زوايا التبئير، وزرع السيميائيات والشواهد الدلالية، وتوظيفها لإيصال أفكاره وفلسفاته، بطريقة غاية في الإتقان حتى إنك - أثناء المطالعة - قد لا تجد قصة إلا وتدهش من أصالة تناول فكرتها، وتفرد زواياها، رغم أنها تناقش موضوعات مستهلكة كثر الحديث عنها، لكن تناول المؤلف لها يختلف بتوظيفه لهذه العوامل مجتمعة، وقد لا أبالغ إن ذكرت بأن الاستثناء من هذا التخييل الإبداعي، وإنضاج الأفكار وتسخيرها لإظهار فلسفة المؤلف وبث أفكاره الحكائية، قد لا يطال إلا قصة أو قصتين لم تواكب قصص المجموعة، وهذا معدل رائع في وقت سقطت فيه مجموعات قصصية بكاملها، وقد حدث ذلك مع بعض كبار الكتاب، كيوسف إدريس، الذي عاش هذا التناوب الإبداعي حتى في مجموعاته، فأتى آخرها أقل جودة بكثير من أوائلها، وحدث ذلك أيضًا مع الروائي السعودي «عبده خال» الذي لم يعد يكتب القصة القصيرة كما كان يفعل سابقًا، وفي كل الأحوال ينبغي التنويه إلى أن الأفكار التي تبنى عليها القصص القصيرة والروايات تعد مرتكزًا مهمًا لا قيمة للعمل من دونه، مهما كانت الكتابة جميلة بلغتها ومشهديتها وشاعريتها، فالعمود الفقري والعصب الحقيقي للأعمال الأدبية الجليلة، يعتمد بالدرجة الأولى على الأفكار والفلسفات، التي يناقشها العمل، والقدرة على عرضها باحترافية تتماهى مع مرتكزات الجنس الأدبي ولا تخل به، وصولًا للتفرد والأصالة في كتاباتنا، وكشاهد على هذه الأفكار المتميزة نجد قصة «وسيمضي الخريف» التي تختصر لنا قدرة المؤلف على بناء الفكرة المحورية بكل تفصيلاتها، واستخدامها لإدهاش المتلقي، وكشاهد على هذا النجاح التخييلي وصناعة الأفكار، يمكننا ذكر أن المؤلف في هذه الحالة تحديدًا اختار تناول علاقة المحارم وغير المحارم في النظام الاجتماعي المصري من بعد نفسي ووجداني مختلف، فخلق لنا صراعًا يعتمد على أبعاد غير جسدية، ولم يجنح باتجاه الابتذال الجنسي وزنا المحارم، بل ذهب باتجاه العلاقة العاطفية السامية التي يمكن حدوثها داخل عائلات متساهلة، قد تُغفل تكوينًا عاطفيا إنسانيا وتجاوزات يستحيل ضبطها إلا بالفصل أو تحديد العلاقات، وقد نجح المؤلف بالفعل في طرح هذه القضية وتاولها بطريقة غاية في الجمال وإن كانت القصة تحتاج معالجة نهائية في المطبخ الأدبي لتخليصها من بعض الزيادات والترهلات التي -في ظني- يمكن لهذه القصة الاستغناء عنها.
وإذا ما ذهبنا باتجاه القصص المنتقاة التي ارتأيت التوقف عندها، وتخصيص الحديث عنها، لكونها علامات في أدب القصة، ويمكننا الاستفادة من تناولها وذكر ما لها وما عليها، سنجد أننا نقف أمام القصة الأبرز في هذه المجموعة «شيء ضائع» التي وصفها الروائي والكاتب السعودي أحمد الشذوي بأنها أيقونة المجموعة كلها، بل تمنى على الكاتبة اختيارها كعنوان للكتاب، وذهب باتجاه أن معظم قصص المجموعة تحمل سمة الفقد، ولعل جميع من تحدث عن المجموعة في أمسية الاثنين «8 سبتمبر 2025» توقف أمام هذه القصة، ما يشير إلا قيمتها، فقد أثنى عليها الأستاذ الدكتور أحمد صلاح هاشم، والدكتور أحمد فرحات، وتحدث مطولًا عنها نائب رئيس اتحاد كتاب مصر الشاعر الأستاذ السيد حسن، الذي أشار إلى ثقوبٍ إبداعية ممنهجة أُغرم بها، ويعتقد أنها رفعت نسبة ذكاء النص، وزادت من تعلق القارئ به، واعتبرها مثالًا لقصة اللقطة الواحدة، أو حكاية المشهد الومضي ذي الإيقاع البطيء، وهذا يعني بالطبع تقلص مساحة السرد الزمانية، وضيق المساحة المكانية، وقلة الشخوص، وبالتالي محدودية نقاط التبئير، وتضاؤل الصراع، وهي المعطيات التي تظهر لنا قيمة المؤلف، عندما يستطيع -رغم ذلك- توظيف أدواته الحكائية في خلق مشهدٍ قصصيٍ رائعٍ يستوقف كل من يطالع هذه المجموعة، ولا يبتعد كثيرًا عن كلاسيكيات القصة القصيرة المعتادة.
وفي كل الأحوال لم تكن القصة بحاجة لشهادة كل هؤلاء، رغم قيمتهم النقدية والقرائية، إذ إنها اعتمدت في قيمتها على مكوناتها الإبداعية، وظروف صناعتها، والأدوات التي وظفها المؤلف في تجهيزها البنائي والأسلوبي، وصولًا لمشهديتها اللافتة، ولعله من نافلة القول ذكر أننا أمام قصة مكتوبة بتكنيك عالٍ أو تقنية مبتكرة، منحتها هذه القيمة، ويكمن ذلك في توظيف الراوي العليم بطريقة غاية في الجمال عند استخدامه لخلق نقاط تبئير متقنة تتناول مفاصل الحكاية وتدير سيميائياتها الدلالية لإيصال مغازيها وعمقها الثري، أو لنقل إيصال رسالتها بطريقة مبتكرة، تجمع بين مستويات القراءة المتعددة، التي ينبغي أن تكون عليها القصة القصيرة كما سيظهر لاحقًا، وكان جميلًا بالفعل أن الراوي العليم لم يكن مجرد حكاء يسرد لنا الصراع من خارج النص بحيادية وشمولية، بل كان قائدا حقيقيًا داخل النص، يدير عدسته في كل الأرجاء ويسلطها على من يشاء ويبعدها عمن يشاء، ويحدد الوقت والمساحة الحكائية لكل أطراف الصراع ويستخدم الشخوص لإدارة الكاميرا معه والإسهام في خلق نقاط تبئير إضافية، حتى إن القارئ العادي قد يُشكل عليه معرفة راوي هذه الحكاية، فيعتقد أنه الحاجب بسبب التكنيك العالي جدًا في بناء هذه القصة تحديدًا واعتمادها الرمزية بشكل إبداعي جميل دون إسراف أو تقتير.
ولعل الملاحظ في هذه القصة، أن مشهدية الحكاية لم تكن عفوية على الإطلاق حتى وإن قال المؤلف إنه كتبها على هذا النحو بشكل مباشر، فالسليقة الانفجارية قد تخرج لنا قصصًا كهذه مكتملة الأركان من مسودتها الأولى، نتيجة التراكمات القرائية الناضجة في العقل الباطن، ويأتي حديثنا المفصل عنها لتعزيز هذا النضوج القصصي، وتمرير مثل هذه الأفكار الخلاقة في كتابتها، ولعل الملاحظ هنا أن المؤلف اختار بذكائه الكتابي الابتعاد عن بطلة الحكاية وهي الفتاة التي تخضع للمحاكمة في قضية آداب، فمثل هذه المشاهد عادة ما تكون نقاط تبئيرها متعلقة بالفتاة، لكونها تمثل الحكاية كاملة، لكن ذلك لم يحدث مما يثير حالة استغراب أمام التقليديين في الكتابة السردية خاصة عندما نجده يبتعد أيضًا عن المحامي الشاب الذي يقف للدفاع عنها، وهو العامل الثاني المهم في مثل هذه المشاهد المختزلة، ليحضر هنا ذكاءُ المؤلف عند استخدامه عنصرًا مهملًا في المشهد، هو الحاجب الذي يمسك برول القضايا ويعلن أرقامها، ويجعله وسيطًا رائعًا لتلقي الحكاية وبثها، من خلال تعالقه النصي مع الراوي العليم وتناوب الأدوار فيما بينهما، وجعلنا نعيش هذه الحالة من التلقي المضطرب، الذي يجنح بنا بعيدًا عن أضلاع الحكاية المعرفية ودلالاتها القيمية ومعانيها المضمرة داخل النص، وليته اكتفى بذلك بل خلق لنا نقطة تبئير مركزية أخرى تتعلق بالقطة الصغيرة جدًا كما وصفها السارد العليم، التي أُدخلت إلى قاعة المحكمة من قبل المؤلف عند صناعته للفكرة الأساس بتفرعاتها كما أسلفنا، واستخدمت كـ سيمياء توصل إلى المعنى المراد، الذي يعود بنا إلى العنوان «شيء ضائع»، وكانت القصة قد أجادت في إيصال هذا المعنى وهو أننا في كثير من الأحيان نُحاسَب على أعمال أو ندفع ثمن جريمة لم نرتكبها، أو كنا ضحايا للفاعل الأساس المغيب كلية، وكأن الحكاية تريد لفت نظرنا إلى أن الأجدى محاسبة المتسبب الحقيقي في تلك الأخطاء، لا نواتجها المنطقية، فوقوع الفتاة في هذا المأزق هو نتاج تراكم عدد من الأخطاء يشبه تمامًا خطأ دخول القطة إلى قاعة المحكمة، وتخبطها وعدم قدرتها على الخروج، والإهمال الكبير الذي تعرضت له من الحاضرين المنشغلين بالمحاكمة عن الالتفات إليها.
ولقد وفق المؤلف في زرع السيميائيات التي توصل إلى هذا المعنى «الضياع» المستهدف من هذا الصراع الموصوف من خلال المقاربة بين القطة التي وجدت في المكان الخطأ، وكادت تدفع الثمن بدهسها وقتلها من قبل أحد المحامين المسنين، والفتاة التي تشبهها تمامًا بتواجدها في الملهى الليلي، أي المكان الخطأ، ونالت نفس المصير عندما قبض عليها واتهمت بالدعارة، بينما كان الرجل المسن كناية عن الأب الداعم والظهر المساند – دل على هذا المعنى قيامُه بسقاية القطة والحنو عليها، وهدوئها واستجابتها له – في إشارة ذكية للفقد الكبير الذي عاشته الفتاة وهي تكابد لإعالة أمها المريضة والنهوض بدور ليس لها، خلال افتقارها للحماية النفسية والجسدية والعاطفية التي يشكلها الأب، وتسبُب هذا الفقد في ضياعها، لنخرج بنتيجة مفادها أن الأب أو الحضن الحامي للفتاة هو الشيء المفقود الذي أوردها هذا المورد، وربما يكون المعنى أعم وأشمل ويصل إلى الظروف الاجتماعية كلها، وتسببها في انهيارات مجتمعية. ورغم بساطة الفكرة وإمكانية ذكرها كموعظة وبطريقة سطحية عند بعض الكتاب، إلا أن المؤلف أظهر هنا براعته في اختيار الأسلوب واعتماده المدرسة السيميائية وتوظيفه لقدراته التخييلية في خلق زوايا تناول مختلفة أسهمت في الابتكار والإبداع المتجلي، الذي يرصده كل منصف يمتلك الأدوات المعينة على تلمس الجمال وتتبع السرد الإبداعي.
ومع القصة الأخرى «رجل من طراز أول» نقف على نوع آخر من السرد الجميل فالنص هنا يختلف تمامًا عن سابقه إذ يجنح باتجاه الإبداع القصصي الواقعي، نعود من خلاله إلى القصص الكلاسيكية القديمة التي في ظني ينبغي للكاتب المبدع المرور بها، حتى يتقن صنعته ويختبر أدواته الحكائية لا أن نتجاهلها بذريعة عصر السرعة وحاجة المجتمع القرائي للإيجاز والتكثيف والاختزال المبالغ فيه، مواكبة لعصر السرعة كما ذكر الدكتور حسام عقل، الذي حاول تجريد القصة القصيرة من الديباجة كما وصفها وهو يشير لفرشة القصة أو المقدمة والتمهيد للصراع التي تميزت بها القصص الكلاسيكية وخلقت قيمتها ولا حياة لها في ظني من دونها.
هذه الحكاية على قيمتها السردية العالية إلا أنها لا تخلو هي الأخرى من بعض الملاحظات البسيطة التي تعد موضع نظر وخلاف بين المتلقين قراءً ونقادًا، وسأعرج عليها لاحقًا، ومثل هذه الملاحظات البسيطة لا ينبغي إغفالها، بحثًا عن الحالة الإبداعية التي توازي قيمة النصوص، وتظهر مصداقية قراءتنا النقدية، أو كما قال الأستاذ أحمد الشذوي في معرض إشادته بالعمل إن الأعمال المميزة لا ينبغي إغفال نقاط ضعفها، فهي تشير إلى قيمتها لا العكس، سعيًا للوصول إلى كمالها والارتقاء أكثر بقيمتها.
وإذا ما عدنا إلى القصة التي تعد إحدى المحطات المهمة في هذه المجموعة، يمكن اعتبارها شاهدًا حيًا على قوة الأفكار والحكايات التي بنيت عليها المجموعة القصصية الرائعة وكذلك تكنيكها العالي، رغم تنوع أسلوبها فنحن نقف هنا أمام قصة قصيرة واقعية لم تستخدم فيها السيميائيات والشواهد الدلالية بشكل واضح إذا استثنينا النهاية وبعض مفاصلها القليلة، ويظهر لمن يقرأها أنها مباشرة وتميل إلى مستوى القراءة الأوحد، وهذا النوع من القصص يحتاج منهجية مختلفة في القراءة كما هو الحال في الكتابة، ولطالما وقفنا عليها في القصص الكلاسيكية باعتماد العقدة القصصية وربطها وحلها أي أننا نتحدث عن ثلاث مراحل واضحة المعالم في كتابتها، هي المقدمة أو «الربط المتدرج للعقدة» والمرحلة الثانية المعنية بالعقدة نفسها أو «الوصول إلى ذروة الصراع» وأخيرًا النهاية التي توصلنا إلى «فك العقدة» وإيصال المغازي المستهدفة من خلال النهاية المدهشة.
ولقد نجحت القصة بشكل كبير في التعامل مع هذه المراحل الثلاث باحترافية عالية، حيث اعتمدت في المقدمة أو البداية أو المرحلة الأولى على زرع حالة وجدانية عالية تربط المتلقي بالحكاية المستهدفة واشتغل النص على هذا الأمر بتفصيلات متعددة أراها أتت في موضعها ولا تعد زائدة، فتعزيز العلاقة الوجدانية بين القارئ والنص ضمن الأهداف التي تحتاجها النهاية المدهشة والصادمة، وهو تكنيك متبع عند الكتاب المبدعين في زيادة التعالق النصي وصولًا للفكاك المأزوم عند الوصول إلى النهاية مما يديم العلاقة بين النص والمتلقي ويوصل رسائله، وقد نجح المؤلف نجاحًا كبيرًا في هذه المرحلة حتى إن بعض القراء قد يعتقد أن الحكاية انتهت عند نقاط الفصل المرحلي بسبب اختلال الذائقة القرائية لهؤلاء القراء نتيجة تأثرهم ببعض القصص القصيرة السطحية التي تتخذ من هذه الحكايات الوجدانية البسيطة حكايات مهلهلة تنتهي دون خلق حالة من الوعي بمضامين مستهدفة وينقطع الاتصال بها مباشرة.
ولعله من المهم هنا ذكر أن الفكرة الأساس التي اعتمدت عليها هذه القصة، قد لا تكون أصيلة وربما مررنا بالكثير منها تخيليًا أو واقعيًا، لكنها -في ظني- تمتعت بالأصالة والتفرد في هذه المجموعة من خلال أفكارها الشذرية التي انتظمت لتصنع لنا الحكاية بالأبعاد التي قررها المؤلف، وكذلك في زوايا التناول المبتكرة، فكون الفتاة هي البنت الوحيدة لأبيها وما أظهره السرد من قوة علاقتهما وارتباطهما الشديد ببعضهما، عدا عن تمتع الفتاة بمواصفات عززت من قوة هذه العلاقة كجمالها اللافت وحسن خلقها وتفوقها الدراسي، وانتهاجهما نفس النهج العملي والحياتي، كل ذلك يسر للمؤلف تشكيل الصراع بكل أبعاده بالطريقة التي يريدها ورفع درجة وجدانيته وارتباطه العاطفي بالقارئ، وفي ظني ذلك لا يحدث عفويًا من دون إرادة المؤلف، وبالتالي فالمبدع هو من منح النص الأصالة المطلوبة من خلال هذه التفاصيل الصغيرة التي جعلت الحكاية والفكرة التي بنيت عليها تختلف تمامًا عن غيرها، ومنحت البناء تماسكًا من هذا الجانب، وبالتالي لا يصح النظر إليه على أنه يعاني من الترهل النصي على الإطلاق رغم كل التفاصيل الطويلة المسرودة، مع ملاحظة أن عدم فهم النصوص والوصول لمغازيها قد يخلق تقديرات خاطئة للمساحة التي تحتاجها الأفكار والفلسفات المضمرة وإيهام القارئ بترهل غير موجود.
وإذا ما انتقلنا إلى المرحلة الثانية سنجد أننا نقف أمام أهم مرحلة في بناء القصة التقليدية فهي معنية بايصالنا إلى ذروة الصراع الذي تجلى هنا في اكتشاف الأب خيانة زوجته وشكه في أبوته للفتاة، واتسمت هذه المرحلة بالصراع النفسي الكبير الذي أجاد المؤلف في إظهاره وتوظيفه استعدادًا للنهاية المرتقبة والمدهشة، ويمكن استشعار كل ذلك في الانهيار الكبير الذي عاشه وهو يرى مستوى الخسة والوضاعة الذي وصلت إليه زوجته، ومكابدته لكتم غيظه وعدم إظهار أي رد فعل، تماهيًا مع محبته الجنونية لابنته، وقد أجاد المؤلف في إظهار كل هذا الصراع النفسي القوي جدًا بالقدر الذي يستحقه من الوصف دون زيادة أو نقصان، خلاف الاستدراك الذي سأتحدث عنه لاحقًا، فكانت محبته الجارفة لابنته أداة استخدمها المؤلف ببراعة ليظهر لنا قدراته الحكائية، وتكييفه للفكرة الأساس التي بني عليها السرد، وتهيئتنا بطريقة رائعة للانتقال معه إلى المرحلة النهائية لنواكب محاولة الأب اليائسة للهروب من الصراع الذي فرض عليه، بأقل الأضرار عندما حاول التغاضي عن الخيانة أو تأخير تعاطيه معها، بالذهاب أولًا باتجاه إثبات بنوة ابنته له وتخلصه من إثم زوجته عندما لجأ لكشف «DNA» وكان خياره منطقيًا لأنه طبيب ومتعلم ويعلم جيدًا قيمة هذا الإجراء … لتكون النهاية الصادمة للقارئ وللأب المكلوم في عاطفته عند اكتشافه أنها بالفعل ليست ابنته بيولوجيًا، وبذلك نصل إلى قمة الصراع ونقطة مفصلية قد ينهي بعض الكتاب المتسرعين القصة عندها تماهيًا مع الفكرة المغلوطة عن النهايات المفتوحة وسوء التوظيف الشائع لها، لكن ذلك لم يحدث بسبب الإمكانات العالية التي يمتلكها المؤلف فوضع الأمور في نصابها، وأخذنا معه بعد الفاصل النقطي والتقاط الأنفاس، باتجاه النهاية التي كُتبت هذه الحكاية لأجلها.
لتأتي المرحلة الثالثة والنهائية، وقد وفق فيها المؤلف أيما توفيق عندما استطاع الأب ابتلاع كل الألم وأوصل ابنته لزوجها ولم يفسد حفل زفافهما رغم علمه أنها لم تكن ابنته «بيولوجيًا» وإنما ربيبته، حتى كانت النهاية الرائعة التي قضت عليه وغادر هذه الدنيا محتفظًا بالسر القاتل الذي كاد أن يفسد حياة ابنته، وانفصل في نفس التوقيت عن الإنسانة الخائنة التي قتلته ألف مرة بخيانتها، وتحقق كل ذلك من دون التأثير على ابنته فكان بحق «رجلًا» تلطف به القدر واختار له هذه النهاية التي ليس هناك أجمل منها ولا أظن الصراع سينتهي إلا بها. فأي حياة سيعيشها بعد هذا الموقف؟! في وقت تركنا نعيش كل معاناته أثناء القراءة وبعدها، حيث إن اتصالنا بالحكاية لن ينقطع بهذه السهولة.
هذا الجمال والإتقان الذي نثني عليه، ينبغي ألا يحجب أنظارنا عن بعض الهنات التي وجدت وهي عادة ما تحضر في كل كتاباتنا وتكون موضع تداول بين القراء والمؤلفين وسأترك لغيري الحديث عن هذه الملاحظات مكتفيًا بذكر ملاحظة واحدة مهمة تمنيت لو أن المؤلف لم يقع فيها وتتعلق بإعلان العلاقة المحرمة بين العشيق والزوجة وطريقة إيصالها للأب عن طريق العشيق حيث إنها حفلت بتفصيلات كثيرة لا يحتاجها النص ولم تكن منطقية على الإطلاق وأربكت السرد، وهذه تحتاج إلى إيضاح بسيط يتعلق بالمنطقية الكتابية ومستويات القراءة الواعية والاحتياجات الحقيقية للمفردات الدلالية، التي تيسر لنا الاختزال والتكثيف وترفع من مستوى ذكاء النص وتبعده عن المباشرة والسطحية والمقالية التي عادة ما تفسد كثيرًا من الأعمال السردية على عمومها، كنت أفضل اكتفاء العشيق بإخبار الزوج المخدوع بعلاقته بزوجته كتابيًا لا هاتفيًا، والإفصاح عن أن العلاقة ممتدة من قبل زواجهما دون إظهار نفسه أو إسماعه صوته، وكذلك محاولة إخفاء ملامح وجهه في الفيديو الإباحي المرسل، انتقامًا منها والاكتفاء بفضحها وتشكيكه في علاقته بابنته، إذ إن الأمور اللاحقة ستحدث حتمًا وأعني بذلك شك الأب في علاقته البيولوجية بابنته، وذهابه باتجاه تحري هذا الأمر، فهو طبيب ولا تخفى عليه مثل هذه الخطوات البحثية، وقد احتاط المؤلف لهذه التفاصيل الصغيرة مبكرًا في رسم الشخصيات، وبالتالي كان باستطاعته الوصول إلى غايات النص من دون إضعافه ببعض تفصيلات حديث العشيق الذي لم يكن منطقيًا، بخلاف أن هذه النوعية من الذكور لا يهتمون عادة بنتاج هذه العلاقة من الأبناء غير الشرعيين ناهيك عن أن النظام القضائى الإسلامي ينسبهم للزوج رغم خيانة الزوجة ولا يلتفت للتحاليل المخبرية، مع ملاحظة أن ظهوره بشخصه قد يترتب عليه السجن والمعاقبة لكونه مقرا بجريمة الزنا، بالإضافة إلا استحالة الجزم بهذا الأمر- أعني أبوته للبنت- مبكرًا طالما لم يُذكر نصًا في السرد، ويبقى مجرد شك إذ لا يعرف أيهما نجح في تخصيب البويضة إلا بالتحليل المخبري، بالإضافة إلى أن ما يريده من الانتقام سيحدث في ظل وجود شواهد يقينية على الممارسة الجنسية اطلع عليها الأب، وفي الأمر تفصيلات أكثر يمكن للمؤلف مراجعتها إذا اقتنع بالفكرة الاستدراكية ورغب في تلافي الملاحظات في ضوء أن القصة تستحق أن تكون خالية من أي هنات يظهرها المتلقي الجيد.
وعلى كل حال لا نستطيع إلا احترام هذه التجربة الرائعة للمؤلف. فقد وفق تمامًا في توظيف أدواته لإخراج هذه المجموعة القيمة التي وصفها الأستاذ أحمد الشذوي بأنها من أفضل المجموعات التي أطلع عليها في السنوات العشر الأخيرة وأظنني أضم صوتي لصوته فالقصة القصيرة أصبحت بحاجة ماسة لمن يأخذ بيدها ويعيد إليها أمجادها المفقودة.