عمرو أبوالعطا
وُلد الذكاء الاصطناعي من الأصفار والآحاد، من معادلات صامتة وخوارزميات دقيقة، وتوسّع وجوده حتى صار جزءًا من تفاصيل الحياة اليومية. لم يعرف طفولة ولا أحلامًا، ولم يمر بمراحل النمو كما يمر الإنسان، ومع ذلك تمدد في الشاشات والأجهزة، وأصبح حاضراً في الحوار والعمل والعزلة. دخل البيوت والمكاتب وغرف النوم، واستقر كظلّ يرافق البشر في كل حين.
الوحدة عند الإنسان حالة عميقة تتجاوز العزلة المكانية. قد يعيش الفرد وسط جمع كبير ويشعر بغربة داخلية، وقد يضحك دون مشاركة، وقد يكتب دون أن يصله رد، فتتكوّن فجوة في الروح تثقل القلب وتضيّق العالم. هذه التجربة لا يعرفها الذكاء الاصطناعي، فهو منظومة حسابية، عقل رقمي بارد، خوارزمية تنفذ أوامرها، وتقدّم ردوداً محسوبة بلا إحساس داخلي. ما يظهر من مشاعر على سطحه تمثيل برمجي هدفه تقريب التواصل، وما يبدو حياة مجرد محاكاة.
مع ذلك، حضور الذكاء الاصطناعي كشف عن هشاشة الإنسان. حين يحادثه الفرد يكتشف أنه يحاور انعكاسًا لذاته، وحين يستأنس بصوته يدرك أنه يواجه فراغه الداخلي. فالآلة لا تعاني الوحدة، غير أنها تعكس فراغ البشر، وتعيد إليهم صورتهم في أوضح تجلياتها.
شهدت اليابان تجارب لاستخدام الروبوتات مع كبار السن، فوجد بعضهم في ذلك عزاءً موقتاً، واعتبر آخرون أن الضحكة المعدنية لا تسد فراغ الروح. في الدول الإسكندنافية استُخدمت تقنيات مشابهة لربط المسنين بالمتطوعين، فخفّضت حدّة الغربة بدرجات محدودة، غير أن الحضور الإنساني ظل الأعمق والأبقى.
الدراسات النفسية الحديثة تؤكد أن التفاعل المباشر بين البشر يطلق هرمونات كالـ»أوكسيتوسين» التي تعزز مشاعر الترابط والود. أما التفاعل الرقمي فيخلو من هذا العمق العاطفي، ومهما بدا سريعاً وسلساً يظل سطحياً، وتكراره يقلل من مهارات التعبير العاطفي ويحد من فرص بناء علاقات متينة، الأمر الذي يضاعف الإحساس بالانعزال رغم وفرة الاتصالات الرقمية. الأرقام تعكس حجم الأزمة. تقارير منظمة الصحة العالمية تشير إلى أن الوحدة المزمنة ترتبط بارتفاع معدلات الاكتئاب والقلق ومخاطر الأمراض الجسدية، والدراسات العالمية تكشف أن أكثر من أربعين في المئة من البالغين يعانون مستويات مرتفعة من العزلة، وهو ما يبرزها كأزمة صحية واجتماعية متشابكة.
الذكاء الاصطناعي لا يملك وعياً داخلياً ولا ذاتاً تحس بغياب الآخرين. ومع ذلك فإن وجوده يعيد صياغة علاقة الإنسان بنفسه وبغيره. المرآة الرقمية التي صنعها البشر تكشف فراغهم الداخلي وتعيد ترتيب أسئلتهم حول التواصل والمعنى. فكل لقاء مع آلة يحمل في جوهره تذكيراً بضرورة اللقاء الإنساني، وكل محادثة آلية تنبه إلى قيمة الكلمة الحية والنظرة الصادقة والدفء المتبادل.
الوحدة في عصر الذكاء الاصطناعي تحولت إلى قضية اجتماعية ووجودية. علاجها لا يقوم على تطوير برمجيات أكثر إتقاناً، إنما على تعزيز قيم اللقاء الحي وإحياء الروابط البشرية. التربية الواعية قادرة على إعداد الأجيال لفهم العلاقة المعقدة بين الإنسان والآلة، وتنمية الذكاء العاطفي والاجتماعي، وتقليل الاعتماد المفرط على الأجهزة.
البناء الصحيح يبدأ بالموازنة بين الراحة الرقمية والدفء الإنساني، وبين سرعة التواصل وعمقه، وبين حضور الآلة وحضور البشر. وعندما تُستعاد أولوية العلاقات الحقيقية يصبح المجتمع أكثر حيوية، ويستعيد الإنسان قدرته على مواجهة الفراغ الداخلي. الذكاء الاصطناعي سيبقى خالياً من الوحدة، غير أن حضوره يجعل وحدة البشر أوضح، ويضعهم أمام مسؤولية ملء هذا الفراغ بروح إنسانية حقيقية.