د. رانيا القرعاوي
في كل عام، تتسابق الجهات الحكومية وشركات القطاع الخاص لإنتاج أفلام تهنئة باليوم الوطني، لتبرز من خلالها شعار هذا اليوم وتؤكد على تعزيز قيم الانتماء والولاء والحب للوطن. ورغم أن هيئة الترفيه وضعت هوية بصرية واضحة وموحدة للاحتفال، إلا أنني أرى أن الأمر بات يتجاوز مجرد شعار بصري أو إطار تصميمي. فالفيلم الوطني ليس رسالة عابرة، بل خطابًا بصريًا يختزن رسالة تتسق مع أهداف الجهة المنتجة له، ويعكس دورها في مسيرة الوطن.
لقد لفتني مؤخرًا فيلم صندوق التنمية السياحي، الذي حمل في مشاهده مزيجًا من الاعتزاز بالهوية المحلية والدعوة بأسلوب فكاهي للعالم لزيارة المملكة والتعرف على ملامحها الحضارية.
وفي مثال آخر مؤثر، قدمت وزارة الصحة فيلمًا عن الأطفال الخُدَّج، أبرزت فيه كيف يبدأ الاهتمام بالمواطن منذ يومه الأول، لتقول للعالم إن صحة الإنسان هي الركيزة الأولى للتنمية، وإن الرعاية لا تبدأ عند النضج، بل منذ اللحظات الأولى للحياة. هذه الرسائل العميقة تتجاوز الطابع الاحتفالي، وتحوّل الفيلم إلى تجسيد عملي لرؤية المملكة التي تضع الإنسان في قلب أولوياتها.
ولعل ما يثير الانتباه أن بعض الجهات تلتزم بنشر أو إعادة تغريد تهنئة القيادة الرشيدة، في حين تغيب هذه الممارسة تمامًا عند جهات أخرى، وكأن الرسالة الوطنية خيار فردي لا التزامًا مؤسسيًا. مثل هذا التباين يعكس حاجة ماسة إلى تنظيم أشمل يضمن أن تكون رسائلنا الوطنية متسقة، فلا تتحول المناسبة إلى ساحة للاجتهادات وتفتقد التنسيق الوطني المؤسسي.
وما زاد الأمر وضوحًا هذا العام أن منصة «اكس» تويتر سابقاً غيّرت سياستها الترويجية، فمنعت ظهور الهاشتاق المروَّج، في حين استمرت بعض الحسابات الحكومية في نشر تغريدات دعائية تحمل الهاشتاق ذاته، فظهر المشهد مشوَّهًا وعشوائياً. مثل هذه الأخطاء تكشف عن ثغرة كبيرة في المتابعة لتحديثات المنصات الرقمية، وتدل على الحاجة لوجود جهة منظمة ترسل بشكل دوري تحديثات المنصات لتفادي تكرار هذه الصورة في مناسبات مقبلة.
مثل هذه النماذج تذكرنا بأن قيمة الفيلم الوطني تكمن في قدرته على الجمع بين الرمزية الوطنية والبعد الاستراتيجي، فلا يكتفي بإعادة تدوير الصور النمطية، بل يبني سردية جديدة متسقة مع رؤية المملكة 2030. من الناحية النظرية، يشير «والتر ليبمان» في كتابه «الرأي العام» إلى أن الصور الذهنية هي ما يحدد طريقة إدراك الجمهور للواقع. وإذا أسقطنا هذا على الأفلام الوطنية، فإنها لا تُشاهد فقط للاحتفال، بل لتشكيل صورة المملكة في أذهان الداخل والخارج. ومن هنا تأتي المسؤولية في الانتقال من مجرد إنتاج فني جميل إلى رسالة وطنية واعية، تستحضر القيم وتترجم الإنجازات وتزيد الطموح بالمستقبل.
إن صناعة الأفلام الوطنية أداة استراتيجية علينا أن نستخدمها في ترسيخ الهوية وإبراز الطموح السعودي للعالم. ويظل التحدي الأكبر في الأيام الوطنية القادمة هو الانتقال من التكرار إلى الإبداع، ومن الاحتفاء الرمزي إلى التأثير الحقيقي من خلال تنظيم اتصالي مشابه للتنظيم البصري.
خاتمة
اليوم الوطني ليس مناسبة للاحتفال وحده، بل فرصة لصناعة خطاب بصري يروي قصة وطن. وكلما اقتربت هذه الأفلام من وجدان الناس وتقاطعت مع تطلعاتهم، كلما تحولت من مجرد تهنئة عابرة إلى ذاكرة بصرية خالدة.