د.عبدالله بن موسى الطاير
استعرت عنوان هذه المقالة من كتاب أصدره الفرنسي أوليفية روا بعنوان: «الجهل المقدس»، لأناقش قضية الجهل المركب عند بعض الساسة والمفكرين السياسيين الذين أوردوا، وسيوردون العالم المهالك بسبب جهلهم المحصن بالقوة والغطرسة.
يمثل الجهل المركب حالة نفسية ومعرفية معقدة حيث يدعي الفرد أنه خبير في مجال معين، بينما هو في الواقع جاهل به تمامًا. هذا النوع من الادعاء لا يقتصر على غياب المعرفة فحسب، بل يتجاوزه إلى اعتقاد خاطئ بالعلم، مما يدفع الشخص إلى تعزيز جهله بالتشبث بمعلومات مشوهة أو مصادر أكثر جهلا، ولكنها محل ثقة عنده، بدلاً من السعي للتعلم من مصادر متنوعة، يستخدم الشخص المتحيز والمستشرف ثقافيا نفوذه وسلطته ووسائل انتشاره لفرض آرائه، مما يؤدي إلى تطبيع الجهل من جانب واتخاذ أو التوصية بقرارات خاطئة وخطيرة من جانب آخر.
يقول سقراط: «أعرف أنني لا أعرف شيئًا»، مشيرًا إلى أن الحكمة الحقيقية تكمن في الاعتراف بالجهل، مقابل الجهل المركب الذي يمنع الإنسان من التقدم، ومع أن جهلة العصر لا يتورعون في ادعاء المعرفة والفخر بسقراط وغيره من فلاسفة السياسة الغربيين، فإنهم أبعد ما يكونون عن تواضعهم ودأبهم الدائم للمزيد من المعرفة.
حالنا مع بعض السياسيين والإعلاميين والمفكرين الغربيين لا يخرج عن دائرة الجهل المركب والمحمي بقداسة نقاء المصدر وتواتره حيث لا يتواضعون للتعلم من المختلف معهم، وإنما مصدرهم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه هو تراث المستشرقين أو ممن يعيشون الحاضر في جلابيب الاستشراق.
أستاذنا داود الشريان كتب تغريدة تصف حال بعض الغربيين الذين تحولوا بعد أحداث 11 سبتمبر 2001م، وبين عشية وضحاها، إلى متخصصين ومنظرين في الشأن الإسلامي. وأزيد بأنهم كانوا يخوضون في تفاصيل دينية وثقافية لا يحيطون حتى بعناوينها ناهيك عن محتوياتها. الأمثلة كثيرة، وكنت ممن عاصر تلك الأحداث وتبعاتها بضع سنين في واشنطن، لأشاهد وأسمع وأقرأ عجائب وغرائب «الذبات» التي تتحول بقوة الإعلام ذي الاتجاه الواحد إلى حقائق يتداولها من هم في السلطة السياسة والأمنية، وربما اتخذوا قرارات الحقت الضرر بالعالم والعلاقات الدولية على أساس منها.
كتاب الأربعين النووية للإمام أبو زكريا يحيى بن شرف النووي، في الحديث، تحول بالترجمة الحرفية لعنوانه إلى ما نفسيتوا لصناعة القنابل النووية، وروج أصحاب الجهل المقدس لهذا الكشف العلمي الرهيب لسكب الزيت على نار الثأر المتقدة إذ ذاك. ولم تكن الرسالة التدمرية للإمام تقي الدين أحمد بن عبد الحليم بن تيمية بعيدة عن التأويل خاصة وأن اسم ابن تيمية شائع بقوة في السياق، فترجم عنوان كتابه على أنه رسالة في تدمير «الحضارة الغربية»، ونقل الجهلة هذه الترجمة الخاطئة، وربما مرروها في استشاراتهم إلى القادة السياسيين والأمنيين، وفاقمت الفجوة بين المسلمين والغرب.
ذات يوم من عام 2002م حضرت ورشة عمل أقيمت للقيادة الوسطى الأمريكية الذين كانوا على وشك السفر إلى الشرق الأوسط، وقدم أحد أكثر العارفين بالمملكة ومن أصدقائها المقربين معلومة متخصصة جدا، بزعمه، عن تقاسم ثلاث فئات في السعودية الحقائب الوزارية وهم آل سعود، وآل الشيخ، والتكنوقراط، ووزع الوزارات بناء على معرفته.
ذهلت من جرأته في عرضها على القيادة العسكرية الأمريكية وفي حضوري. لا أظن به السوء مطلقا، فهو صديق وفي للمملكة، ولكنه الجهل المقدس الذي لم يستطع الفكاك منه. عندما حان تدخلي ذكرت بعض الوزارات وأسماء وزرائها وهم من خارج التصنيف الذي ذكره.
ربما أخذ الحضور مداخلتي «وهي ليست رأي بل حقائق» بالجدية اللازمة، وربما احتكموا إلى قناعتهم المرجعية بأن بني جلدتهم على حق دائما وأن معلومات غيرهم لا تعدو أن تكون مجرد دعاية تصدر من أشخاص لا يتمتعون «بحرية التعبير».
في ذات العام شاركت بورقة في منتدى في واشنطن حضره العشرات من المتخصصين في شؤون الشرق الأوسط، وكان عنوانها مستفزا في وقته: «أنا والوهابية»، وبعد أن انتهيت علّق أحد الحضور بقوله: قبل أن أستمع إليك كنت أظن أن الوهابية حزب سياسي وأن هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هم ذراعها المدجج بالأسلحة الذين يجوبون شوارع المدن السعودية.
توم برّاك يستقي من المعين ذاته، ويحسب أنه العارف بشؤون الشرق الأوسط والمتخصص في ثقافته وتاريخ تشكل الدول في هذه المنطقة. وكلامه لا يعني الكثير للعارفين، ولكنه جهل قاتل عندما يوضع على شكل توصيات على طاولة رئيس أقوى دولة في تاريخ البشرية.