عبَّر الأمير بندر بن سلطان بن عبد العزيز، السفير السابق للمملكة العربية السعودية لدى الولايات المتحدة، والأمين العام السابق لمجلس الأمن الوطني السعودي، مساء الجمعة، عن تقديره للوزير والدبلوماسي المغربي الراحل، محمد بن عيسى، الذي ربطته به «أواصر المحبة والأخوة والصداقة»، منذ فترة عملهما المشترك في واشنطن.
وقال الأمير بندر بن سلطان: إن ابن عيسى كان «خير العضيد ونعم الرفيق، في الدفاع عن قضايا الأمتين العربية والإسلامية».
جاء ذلك في رسالة وجهها إلى الأمين لمؤسسة منتدى أصيلة، حاتم البطيوي، خلال الندوة التكريمية للفقيد ابن عيسى بعنوان «رجل الدولة وأيقونة الثقافة»، تم تخصيصها على مدى ثلاثة أيام، لتسليط الضوء على إسهامات الراحل في مجالات الفكر والإبداع، ودوره البارز في تعزيز الحوار الثقافي بين الحضارات، وذلك بمشاركة ثلّة من أصدقائه وزملائه من مفكرين وسياسيين وإعلاميين من المغرب وخارجه.
وأشار الأمير بندر بن سلطان إلى امتنانه لمشاركته في عدد من دورات موسم أصيلة الثقافي الدولي، إلى جانب صديقه الراحل ابن عيسى، مشيراً إلى أن علاقته به استمرت حتى بعد أن انتقل إلى «رباط العز والخير»، في إشارة إلى تعيينه وزيراً لخارجية المغرب في 1999.
وشدد الأمير بندر بن سلطان، في معرض كلمته التي تليت بالنيابة عنه، على أنه عمل باستمرار، برفقة ابن عيسى، على تعزيز وتمتين الروابط الثنائية العريقة بين المملكتين، المغربية والسعودية، حيث قال: «دأبنا على تطوير وتنمية العلاقات الثنائية الوثيقة والتاريخية، بين المملكة العربية السعودية والمملكة المغربية الشقيقة، والتي انطلقت في أواخر القرن الثامن عشر الميلادي، وأرساها السلطان سليمان بن محمد بن عبد الله العلوي، والإمام عبد العزيز بن محمد بن سعود آل سعود، وترعرعت ونمت منذ ذلك التاريخ إلى العهد الحالي، حيث يرعاها خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز آل سعود، وصاحب الجلالة الملك محمد السادس العلوي، واللذان يحرصان على تطويرها في كافة المجالات، بما يخدم المصالح المشتركة بين الدولتين، وبما يعزِّز مصالح الأمتين العربية والإسلامية، والسلام والاستقرار الدولي».
كما تحدث الأمير بندر بن سلطان عن مدينة أصيلة، التي وصفها بـ»البهية» و»الحالمة على ضفاف الأطلسي»، مشيراً إلى تعرفه عليها، ثم على موسمها الثقافي الدولي، من خلال ابن عيسى، وكيف تعاونا «سويًا»، في سبيل «إحداث نقلة نوعية في النشاط الثقافي والمعرفي فيها»، من خلال برنامج المنتدى، بدعم ورعاية وتوجيه من الملك فهد بن عبدالعزيز، والملك الحسن الثاني، اللذين «رغبا أن يكون منتدى أصيلة، منارة ثقافية مشعة، ورافداً مهماً للحراك الثقافي والفني، ليس في المغرب الشقيق فحسب، بل يتعداه ليشمل الحراك الإنساني في أنحاء أقطار المعمورة».
وعبَّر الأمير بندر بن سلطان عن قناعته التامة، بأن الخلف في مدينة أصيلة سيواصل على «نهج» ابن عيسى، لـ«تطوير المنتدى وإكمال المسيرة الطيبة» التي بدأها الراحل.
وتتجسد العلاقة العميقة والوثيقة التي جمعت بين الأمير بندر بن سلطان والراحل ابن عيسى، ومن خلاله مع مدينة أصيلة والمملكة المغربية ككل، من خلال عدد من المشاريع الكبرى التي أقيمت في المدينة بدعم سعودي.
وتظل مكتبة بندر بن سلطان، التي تحمل اسم الأمير بندر من أبرز المعالم التي تزيِّن أصيلة، وتعكس من جهة تميز العلاقة الشخصية والإنسانية التي جمعت بين الأمير بندر والراحل ابن عيسى، ومن خلالها العلاقات الأخوية بين البلدين الشقيقين.
كما تحدث حاتم البطيوي، الأمين العام الحالي لمؤسسة منتدى أصيلة، عن مكتبة الأمير بندر بن سلطان، التي تأسست قبل ما يقرب من عشرين عامًا، وتجاوزت دور المكتبة التقليدية، لتتحول إلى «ذاكرة حية ومؤسسة فكرية نابضة في قلب المدينة، ومركز إشعاع ثقافي منفتحاً على العالم»، مشدداً على أن هذا الصرح يظل شاهدًا حيًا على متانة العلاقات الأخوية الراسخة بين المملكة المغربية والمملكة العربية السعودية، تحت رعاية الملك محمد السادس، وخادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز.
ومن جانب آخر شارك رئيس التحرير الأستاذ خالد المالك في ندوة حوارية عن محمد بن عيسى، حيث جاء في كلمة له:
بنظري فإن المدخل إلى مدينة أصيلة، وإلى البوابة المفتوحة للوصول إليها، يجب أن يقال بأنه يبدأ مجازاً من اسم ابنها البار -العَلَم- الأستاذ محمد بن عيسى -رحمه الله- الذي اقترن اسمه في العصر الحديث بهذه المدينة الجميلة ذات التميز بأزقتها وأحيائها البيضاء، وبنمط عمرانها المغربي اللافت، وبمركزها الإشعاعي ثقافياً وفنياً، وحيثما كانت صورتها الملهمة في ذواكرنا.
إنها أصيلة مدينة الفنون المتعددة التي يمكن وصفها بأنها أقرب ما تكون إلى متحف مبهر، ومساحة مفتوحة للفكر وتأصيل الوعي، من خلال موسم أصيلة الدولي ومنتداها بنشاطه الأدبي، واهتمامه بفنون الرسم والموسيقى والنحت وكلما كان ضمن دائرة ذائقة ضيوفها، مما يجذب السائح ويشجّعه على تكرار الزيارة لها.
وعن أصيلة المدينة الجميلة يغيب القامة الدبلوماسية والثقافية ورمزها الكبير وابنها البار الدبلوماسي والمفكر الأستاذ محمد بن عيسى، بعد أن منح مدينته كل الحب والإخلاص، ووضعها في برنامج كل المثقفين في العالم ليكونوا على موعد سنوي لزيارتها والاستزادة من الثقافة والعلوم في موسم أصيلة الثقافي الدولي، حيث منتدى أصيلة الذي أسسه المفكر الكبير منذ خمسة وأربعين عاماً، ليكون منبراً حراً لكل الأفكار والرؤى ضمن قواعد الالتزام باحترام فكر الآخر في أي حوار.
محمد بن عيسى ومثلما كان في حياته وفياً لجيله من المبدعين والموهوبين في كل مجالات الذائقة الثقافية والفنية، فكرَّمهم واحتفى بأعمالهم الكبيرة، وزيَّن مدينته الجميلة بإطلاق أسماء كثير من الشعراء والأدباء الكبار على حدائق أنشئت لتحمل أسماءهم، من مختلف الدول العربية، فإن الوفاء والتقدير من مدينة أصيلة وعَلَمها محمد بن عيسى لم يقف عند ذلك، وإنما كان يكرّم في حياته ومن خلال (خيمة الإبداع) كل من خدم الفكر والإبداع، وكل من كان نشطاً في تعزيز الحوار بين الحضارات والثقافات، وها هو الآن بعد وفاته يُكَرَّم بذات الخيمة التي كان يقوم فيها بنفسه بتكريم الرواد في مختلف مجالات الثقافات، وفاء وعرفاناً لإسهاماته الكبيرة المتميزة في خدمة الإبداع والثقافة، ومبادرته بتخليد الأسماء الثقافية الكبيرة في الوطن العربي، وتأصيل وجودهم من خلال منتدى أصيلة.
لكن ماذا عن الأستاذ محمد بن عيسى -رحمه الله- الذي كان شاغل الدنيا دبلوماسياً وثقافياً وإنسانياً، وهو الحاضر الغائب الآن لأول مرة عن موسم أصيلة الثقافي الدولي السادس والأربعين في دورته الخريفية لعام 2025م، الذي أسَّسه بفكره الخلاّق، وحيث يتم تكريمه في ندوة (خيمة الإبداع) تقديراً لعطاءاته في خدمة الفكر والثقافة، وانحيازه الجميل المبكر نحو تعزيز وتأصيل حوار الحضارات والثقافة؟
أزعم أنه مهما قيل وكُتب وأرّخ عن انفتاحه على الثقافة والدبلوماسية وكذلك الإنسانية، فإنها لن تبلغ ما بلغه المؤسّس محمد بن عيسى من نجاحات، رغم كل هذا الحشد النوعي الكبير من دبلوماسيين وأدباء وإعلاميين من المغرب وغير المغرب الذين جاءوا في تظاهرة -ربما مدينة أصيلة ومنتداها- لم تشهدها في أي موسم كما سنرى في هذا الموسم لتكريم الفقيد الكبير.
كان -رحمه الله- واسع الأفق، بعيد النظر، ملهماً في ولادة الأفكار الثقافية وتنفيذها، بروح من الشغف لتأصيل وتعميق ما يثير العقول، ويقرّب وجهات النظر، ويرسم هدفاً للجمال في الحياة، ولم يثنه أو يشغله عن ذلك تلك المناصب الكثيرة والكبيرة التي تقلّدها وزيراً وبرلمانياً وسفيراً، ومناصب أخرى قيادية في الداخل والخارج، فهو أكبر من أن يقتصر تعريفه كما لو أنه شخصية عامة فقط، دون المرور على مساحة الإبداع التي عشقها، وأثرى فيها، وترك بعد رحيله إرثاً كبيراً فيها.
يكفي اختصار حياة محمد بن عيسى -حتى وإن لم يقبل الاختصار- أن نشير إلى تأبين جلالة الملك محمد السادس للفقيد، حين وصفه بـ (رجل الدولة المقتدر، والدبلوماسي المحنك) وهو الذي كان صاحب الوزارتين، وزيراً للخارجية ووزيراً للثقافة، وسفيراً للمغرب في أمريكا، وعضواً في البرلمان.
لكن سيرة محمد بن عيسى، ومسيرته، أبلغ من أن تقتصر على ذلك، فقد كان همّه أن تكون مدينته (أصيلة) مدينة ثقافية، فكان له ما أراد، فقد نجح في تأسيس منتدى أصيلة، باعتباره مشروعاً استراتيجياً للفن والثقافة والفكر، ضمن وعيه المبكر، وانفتاحه على الدبلوماسية والثقافة، وإنصاته لما يفكّر فيه غيره، مستفيداً من كل فكر نيّر في خدمة مشروعه لصالح مدينته التي أحبها وأخلص لها، وساهم في تحويلها إلى ساحة للحوار الثقافي الرصين.
نعم، لقد أصبحت أصيلة وجهة ثقافية وفنية للعالم منذ تأسيس منتدى أصيلة، فلا يغيب أبرز المفكرين والسياسيين والإعلاميين عن موسمها السنوي الذي يُعقد في صيف كل عام، حيث التنوع الفكري والثقافي والفني، وحيث الإبداع في الأعمال التشكيلية والمنحوتات والجداريات لفنانين تشكيليين ورسامين كبار من المغرب ومن العالم، وهناك في كل موسم فكر إبداعي جديد، ونمط لافت من الفنون، لإظهار مدينة أصيلة على أنها من العالم وإلى العالم، بمخزونها الثقافي، وإرثها التاريخي والإنساني، وتوجهها نحو بناء حوار بين الحضارات، ولا يمكن فصل هذا عما قام به مؤسس منتدى أصيلة فقيدنا الأستاذ محمد بن عيسى من جهد خلاّق حتى رأينا موسم أصيلة ملتقى ومنبراً لذوي الاهتمام بالثقافة والفنون، والحوار لتقريب وجهات النظر، وإرساء السلام والاستقرار في العالم.
يشار إلى أن ندوة تكريم ابن عيسى، تأتي ضمن برنامج «خيمة الإبداع»، في إطار فعاليات موسم أصيلة الثقافي الدولي الـ46، في دورته الخريفية، التي تنظمها مؤسسة منتدى أصيلة، بشراكة مع وزارة الشباب والثقافة والتواصل (قطاع الثقافة)، ومجلس جماعة (بلدية) أصيلة، تحت رعاية الملك محمد السادس، وذلك ما بين 26 سبتمبر (أيلول) الجاري و12 أكتوبر (تشرين الأول) المقبل، بمشاركة أكثر من 350 شخصية من عالم الدبلوماسية والفكر والثقافة والفن والإعلام.