د. عبدالحليم موسى
لم تعد مؤتمرات الذكاء الاصطناعي مجرد ملتقيات علمية لتبادل الأوراق البحثية أو استعراض آخر أدوات البرمجة، بل تحولت إلى ظاهرة فكرية وثقافية تعكس قلق الباحثين والمفكرين وطموحاتهم في آن واحد، فهي أشبه بمسارح كبيرة يعرض فيها العقل البشري رؤيته للمستقبل، ويطرح الأسئلة الكبرى حول ماهية الإنسان، حدود المعرفة، وأفق التقنية؛ فمناقشة إيجابيات هذه المؤتمرات وسلبياتها ليس مجرد حديث تقني أو ترف فكري، بل هو نقاش فلسفي وإنساني عميق يعكس جدلية الإنسان مع أدواته البحثية.
من أهم إيجابيات هذه المؤتمرات، إيجاد فضاءات رحبة لتبادل المعرفة وتعاون العلماء والمفكرين والمبرمجين والمستثمرين من مختلف بقاع الأرض، وفتح الأبواب أمام الجامعات الناشئة والمبتكرين لعرض أفكارهم، ما يعزز التنوع الفكري ويثمن الحوار العلمي، كما أنها لا تعرض الذكاء الاصطناعي بوصفه أداة محايدة فحسب، بل تضعه ضمن سياق إنساني واسع، من الصحة والتعليم إلى الإعلام والاقتصاد، لتصبح التقنية قضية حياتية يومية، وبهذا فهي تعد جسراً يربط المختبر بالواقع، والمشروع المجرد بالواقع المعاش، والأحلام التكنولوجية بالحياة اليومية للمجتمعات.
هذه اللقاءات العلمية في المؤتمرات تولد ما يمكن تسميته السردية الكونية للمستقبل، إذ يلتقي آلاف العلماء والمفكرين والمستثمرين لتشكيل رؤية جماعية لما قد يكون عليه مستقبل العالم؛ هذه السردية تمنح شعوراً بالانتماء لمشروع حضاري أكبر من الحدود الجغرافية والسياسية، وتغذي رغبة الإنسان في أن يكون جزءاً من قصة أكبر؛ قصة تطور الفكر والمعرفة والتقنية.
خلف هذا البريق توجد مظاهر سلبية تستدعي الانتباه، فبعض المؤتمرات تتحول إلى مسارح استعراض كبيرة، تباع فيها الأحلام كما تباع المنتجات في أسواق المال، ويقدم فيها المستقبل وكأنه حقيقة مؤكدة، بينما هو مجرد فرضية لم تتحقق بعد. هذه الظاهرة تعكس خطراً معرفياً، إذ يمكن أن تختزل التقنية في أداة استعراض، دون مساءلة نقدية حقيقية أو تحليل فلسفي دقيق.
يمكن النظر إلى هذه المؤتمرات باعتبارها مشروعات تتحدث عن إنقاذ الجسد، تعزيز الذاكرة، وإطالة عمر الإنسان والكون، لكنها في الوقت نفسه تكشف خوف الإنسان من فقدان السيطرة على المستقبل المجهول، ومن أن تصبح أدواته أسياداً عليه.
وهنا يحضرني قول الفيلسوف الألماني مارتن هايدغر حينما حذر من التقنية باعتبارها ليس الخطر الأكبر الذي يمكن أن يتحكم فينا، بل في أن تُغيّب قدرتنا على التفكير في ماهيتها. فمؤتمرات الذكاء الاصطناعي قد تكون تجسيداً لهذا الخطر؛ إذ قد ننشغل ببريق العروض والوعود، ونخشى من مستقبل يمكن أن تتحول أدوارنا الأساسية فيه إلى خوارزميات.
على المستوى الأخلاقي قد تولّد هذه المؤتمرات، جدلاً حول مسؤولية الإنسان في توجيه التقنية، كما أن هناك بعداً اجتماعياً يثير القلق، إذ قد تحدث هذه المؤتمرات فجوة بين النخب العلمية والرقمية وبين الجمهور العام، فتصبح المعرفة حكراً على مختصين، بينما يبقى المجتمع في حالة انتظار أو رهبة، دون قدرة على المشاركة في صياغة قراراته الرقمية، وهذا يضع المسؤولية على عاتق منظمي هذه الفعاليات لضمان أن يكون المحتوى شفافاً وقابلاً للفهم العام، وليس مجرد عرض للتقنيات الحديثة.
فالإيجابيات الكبرى لهذه المؤتمرات تكمن في قدرتها على إشعال خيال الإنسان وتحفيز التعاون العالمي، لكنها قد تتحول إلى مصدر خيبة إذا لم تتحقق الوعود. فالتاريخ مليء بالمبادرات التي بشرت بثورات معرفية لم تتحقق بعدُ؛ هذه الفجوة بين الخطاب والواقع قد تولد فقدان الثقة، وربما تشكك في جدوى الذكاء الاصطناعي برمته، فالخطر الحقيقي يكمن في تحويل هذه اللقاءات إلى مجرد تسويق للآمال، دون التعمق في التحليل الأخلاقي والفلسفي.
إذا أردنا لهذه المؤتمرات أن تكون جسراً نحو المستقبل، فيجب تحريرها من طابع الاستعراض الدعائي، وتوجيهها نحو النقد الفلسفي، والمساءلة الأخلاقية، والمشاركة المجتمعية، وبهذا يمكنها أن تتحول من مجرد طموحات لأفكارنا، إلى منارة للفكر والوعي الإنساني، تعكس وعياً حقيقياً بعلاقاتنا بالتقنية، وتضمن أن تبقى الإنسانية في صلب مشروع الذكاء الاصطناعي، لا ضحية له.