مرفت بخاري
ليس كل الصامتين ضعفاء، فبعض الصمت لا يُمارس لأنه عجز، بل لأنه وعيٌ يتجاوز الرد، وكرامة ترفض أن تتلطخ بالصراخ. ليس كل رجل التزم الصمت في لحظة كان حديثه فيها مبررًا وقراراته نافذة وتنازل عنها، ضعيفًا؛ بل هو مشهد من أندر مشاهد الرجولة وكرم الأخلاق.
وليست كل امرأة صمتت في وجه الإساءة ضعيفة، بل تلك التي انسحبت بهدوء قد تكون أقوى النساء، لأنها اختارت أن لا تدخل في معارك لا تشبهها. البعض يرى في استرداد الحقوق أو التمرد أو حتى الرفض جريمة تمس مكانته وتنتقص من قيمته في نظر الآخرين، فتُسقط كل الحقوق حين تلامس مصلحته. ومن هنا، أصبح التبرير بلا جدوى، ولا قيمة له في ضمائرهم، فكان الانسحاب هو الحل دون مساحة للرجوع أو للتفاهم، فلا توضيح ولا حلول ولا نوايا صادقة للاحتواء، فالصواب والخطأ باتا وجهين لعملة واحدة لا يغيران من الواقع شيئًا. وتتعدد نوايا الصمت وإن بدا السكوت واحدًا، فهناك من يصمت ليربك لا ليهدأ، يصمت الرجل ليُشعر المرأة بالذنب، وتصمت المرأة لتهز يقين الرجل بنفسه، صمتٌ لا يحمل نُبلًا، بل يُمارس كأداة عقاب وتكتيك خفي للهيمنة، لا تأمُل فيه ولا نية لاستنباط حلول منصفة.
وفي المقابل، هناك صمتٌ آخر، أكثر سموًّا، من يدرك أن الجدال لن يُثمر، وأن الكلمة إن قيلت في غير موضعها فُسرت بما لا يشبهها. صمت يحفظ الكرامة ويغلق الأبواب بهدوء، لا خوفًا ولا هربًا، بل احترامًا للذات وحرصًا على ألا تُشوّه العلاقة بما لا يُصلح. فالصمت سلاح، لكن الفارق كبير بين من يستخدمه لبناء مساحة آمنة، ومن يشهره سيفًا لا يرحم. أن تصمت عن حب لا يعني أنك تخليت، وأن تكمل الحديث لا يعني أنك انتصرت. الصمت فعل معقّد، تحدده النوايا لا الكلمات التي لم تُقل، ولا يُقاس بحجمه بل ببعده الأخلاقي ورسالته الخفية.
وقد يكون أبلغ من ألف كلمة، وأقسى من ألف هجوم، وأسمى من ألف تبرير. هو قرار لا يتخذه الضعفاء، بل أولئك الذين اكتفوا من الضجيج وآثروا أن يُنصتوا إلى صوت قلوبهم لا صدى الجدل. حين يصمت الرجل أو المرأة، لا يعني أنهما فقدا القدرة على الرد، بل يعني أنهما بلغا من الوعي ما يجعلهما يدركان أن الكلام لا يجدي مع من لا يُنصت، وأن من لا يرى الألم في العيون، لن توقظه الحروف، ومن قواعد الحكمة قالوا إذا كان الكلام من فضة فالسكوت من ذهب، وهنا أتحدث عن الصمت كسلاح أو كطوق نجاة وقت الخصام والاختلاف، فالصمت ليس دائمًا نهاية العلاقة، لكنه غالبًا نهاية الاحتمال. وحين يصمت من كان يومًا يُجيد التعبير، لن يكون صوته كما كان، ولا العودة كما يظنها الآخرون، فالقلوب تتصدع وتتأذى بالكلام الجارح، وهناك عبارات متى أطلقها اللسان كانت كالسهم، لا يبرأ أثرها في الروح، ولا يُشفى منها الجسد. لذا، حين نختار الصمت، لا تفترضوا الهزيمة، فربما نختار أن نحفظ ما تبقى منّا، لا ما تبقى منكم.