د. أحمد عبدالله المالك
في صباح أحد الأيام أخبرني مدير مكتبي عندما كنت نائباً لمحافظ مؤسسة النقد العربي السعودي (البنك المركزي الآن) أن هناك شيخاً وقوراً اسمه عبدالله السويلم مرسلاً من قبل سمو الأمير سلطان رحمهما الله يرغب مقابلتي.
رحبت بالشيخ عبدالله رحمه الله وأخبرني أن ابنه الدكتور خالد يحمل شهادة الدكتوراه في علم الاقتصاد من إحدى جامعات أمريكا والزمالة من جامعة هارفارد وعاد حديثاً إلى المملكة ويرغب العمل في مؤسسة النقد (البنك المركزي الآن)، سررت كثيراً لأن المؤسسة تبحث عن هؤلاء الفئات من حملة الدكتوراه في هذا التخصص بالذات وطلبت من الشيخ عبدالله أن يراجع ابنه الدكتور خالد سعادة مدير عام الشئون المالية والإدرية لتعيينه في إدارة الاستثمار/ قسم عمليات الاستثمار.
وفي صباح اليوم التالي تم مباشرة الدكتور خالد وتدرج في الوظائف حتي أصبح مديراً عاماً لإدارة الاستثمار، واستمر في هذا العمل حتى تقاعده وكنت قد سبق وأن تقاعدت قبله بعدة سنوات وعلى وجه التحديد تم تقاعدي في العام 1995م، وخلال عملنا في مؤسسة النقد (البنك المركزي الآن) لم نتقابل كثيراً علي المستوى الشخصي ولكن التعامل الرسمي كان مستمراً لم يتوقف.
عندما تقاعد من مؤسسة النقد (البنك المركزي الآن) بدأ الاستمرار في مهنته كزائر وباحث في كل من جامعة هارفارد وجامعة ستانفورد الشهيرتين، وبدأ ينشر البحوث وخاصة ما يتعلق بطريقة استثمار الأصول الفائضة في كل من مؤسسة النقد (البنك المركزي الآن) وصندوق الاستثمارات العامة، وكان وفقه الله عندما ينشر بحثاً مع زملائه الباحثين يزودني بصورة من البحث الذي كان طويلاً، وعلي درجة عالية من المهنية والدقة لأخذ رأيي وكنت دائماً مشجعاً له في الاستمرار وإبداء أي ملاحظات علي بحثه، والتي إما تكون بسيطة أو لا توجد أي ملاحظات.
وفي هذا الشهر بتاريخ 5 سبتمبر 2025 نشر بحثاً قيماً مع زملائه وبتوصيات محددة لكل من جهازي مؤسسة النقد العربي (البنك المركزي الآن) وصندوق الاستثمارات العامة التي تودع وتستثمر فيها احتياطيات المملكة. وقد قرأت البحث بكل عناية ولخصته مع إضافة قليل من الملاحظات التي رأيتها مفيدة للبحث.
لم يكن يملك صندوق الاستثمارات قبل عشر سنوات إلا مبلغاً محدوداً لا يتجاوز (150) مليار دولار، وكان معظم الاحتياطيات بالأصول الأجنبية والمحلية مودعة ومستثمرة من قبل إدارة الاستثمار في مؤسسة النقد (البنك المركزي الآن) وكانت محاطة بكامل السرية إذ قبل عشر سنوات معظم البيانات المالية الحساسة محاطة بسرية كاملة.
وخلال العشر سنوات المنصرمة نمت أصول صندوق الاستثمارات العامة حتي أصبحت في عام 2024 مبلغاً قدره (3.42 تريليون ريال) حيث فاقت كثيراً أصول مؤسسة النقد (البنك المركزي الآن) التي انكمشت إلى مبلغ (1,91 تريليون ريال) في يوليو 2025، ومن المعروف أن سياسات كل من صندوق الاستثمارات العامة واستثمارات مؤسسة النقد (البنك المركزي الآن) تختلفا إذ أن استثمارات صندوق الاستثمارات العامة موجهة إلى تطوير القطاعات الأساسية والاستثمار في 215 شركة محلية ودولية في معظم القطاعات الإسترتيجية والبنية التحتية في المشاريع العملاقة، واستثمارات مؤسسة النقد (البنك المركزي الآن) استمرت على نفس السياسة السابقة وهي الاستثمار في إدارة المحافظ المالية والاتفاق مع مدراء حقائب عالميين لإدارة تلك المحافظ وسندات الخزينة ذات المدد المختلفة وعدم الاستثمار في شركات الأسلحة أو الشركات المحرمة دينياً.
وعندما أصبحت البيانات متوفرة للقارئين المهتمين وللمتخصصين في الاستثمار لم يكن من الصعوبة على الدكتور خالد وزملائه في معاهد البحوث المتخصصة والجامعات العريقة كجامعة هارفارد وستانفورد في بحوثهم من الاستفادة من تلك المعلومات والبيانات التي تم الافصاح عنها بكامل تفاصيلها.
والمقالة أو البحث الذي بصدده الآن مقالاً يتكون من (25) صفحة قام بإعداده كل من الدكتور خالد السويلم والدكتور آشبي مونك والدكتور مالان ريتفيلد من جامعة ستانفورد وتم نشره في 5 سبتمبر 2025 في جامعة ستانفورد وعنوانه (نحو نموذج سعودي جديد للاستثمار السيادي) ويتطرق هذا البحث إلى السياسات اللازمة لدعم (الدَفعة الكبري) التي يجب أن تقوم بها المملكة العربية السعودية من أجل التحول الاقتصادي ضمن رؤية 2030 ما دفع الباحثين، وعلى رأسهم الدكتور خالد، هو اعطاء إشارة قوية إلى المسؤولين الماليين في المملكة بأن إيرادات النفط التي كانت المملكة تعتمد عليها بدأت في الانخفاض تدريجياً مما أدى إلى دورة من (الازدهار والانكماش) في الإنفاق العام، وعلى الرغم من أن الإيرادات غير النفطية قد نمت بشكل كبير ومتواصل حيث أصبحت الآن تشكل أكثر من (50 %) من الناتج المحلي الاجمالي الحقيقي إلا أن إيرادات النفط أصبحت حالياً وحدها لم تكن كافية لتمويل (الدَفعة الكبري) التي تحدثت عنها في بداية المقال التي تنفذها المملكة والاحتياجات السكانية المتزايدة.
ويشير البحث بعد تحليل مفصل ودقيق إلى أن سعر التعادل المالي أصبح في ارتفاع بحيث دعت الحاجة في أوائل عام 2025 أن يكون سعر البرميل الواحد (113) دولار لتحقيق التوازن في الميزانية، وهذا يصعب تحقيقه في الظروف الحالية، وحتي في المستقبل القريب الا إذا كان هناك حدث استثنائي.
لذا، ومن الضروري أن يحدث تغير هام في استراتيجية المملكة الاستثمارية لأن الأصول الأجنبية بدأت كما هو مفترض في رؤية 2030 إلى التركيز علي الاسثمارات المحلية الضخمة واسعة النطاق بدلاً من تراكم الاصول الأجنبية، وقد أدى هذا إلى سحب الاستثمارات الأجنبية وتحويلها إلى استثمارات في البنية التحتية العملاقة مما أدى إلى انخفاض حاد في احتياطيات النقد الأجنبي المحتفظ بها في مؤسسة النقد (البنك المركزي الآن).
ويناقش بحث الدكتور خالد ومن معه بأنه من الضرورة ولأجل استدامة التوجه الاستثماري أن يتطور دور صندوق الاستثمارات العامة من كونه (صندوقاً ناشئاً) يركز علي المشاريع المحلية إلى نموذج أكثر نضجاً ونمواً بحيث يوفر دخلاً مستداماً من الأصول المحلية والأجنبية معاً. ولهذا تقدم الباحثون في جامعة اكسفورد بالتوصيات التالية والتي تقدم نهجاً مزدوجاً يركز على تحقيق دخل من الاستثمارات المحلية والأجنبية معاً.
أولاً: فيما يتعلق بالدخل المحلي
نظراً لأن كثيراً من المشاريع الضخمة المحلية التي يمولها صندوق الاستثمارات العامة قد نضجت وبدأت في توليد دخل من الأرباح والضرائب والأرباح الموزعة والإيجارات وبيع بعض الأصول. يسلط البحث على (إعادة تدوير الأصول) كإستراتيجية رئيسية حيث يمكن لصندوق الاستثمارات العامة تحويل استثمارات البنية التحتية (مثل الطرق ذات الرسوم والموانئ) إلى سيولة مالية من خلال بيعها أو بيع عائداتها إلى مستثمرين أقل ميلاً للمخاطرة، ثم يمكن اعادة استثمار العوائد في مشاريع (البنية الخضراء) الجديدة، وقد تم استخدام هذا النموذج من الاستثمار ينجاح في كندا وأستراليا، كما يساعد على جذب الاستثمار الأجنبي المباشر ورأس المال الخاص.
ثانياً: فيما يتعلق بالدخل الأجنبي
ويعتبر الدخل بالعملة الأحنبية ضرورة ملحة لدفع تكاليف الواردات المطلوبة للمشاريع العملاقة للبنية التحتية، ولبناء احتياطيات في العملات الأجنبية للمحافظة علي سعر صرف الريال مقابل الدولار، كما هو عليه منذ عام 2006.
ويوصي البحث زيادة حصة صندوق الاستثمارات الاجنبية من (20 %) حالياً إلى توزيع بنسبة (50/50 %) بين الأصول المحلية والاجنبية أي بنسبة متساوية بحلول عام 2040، كما بوصي البحث بزيادة ملكية صندوق الاستثمارات العامة في شركة أرامكو السعودية من 16 % إلى 20 % ثم إلى 25 % في نهاية المطاف، مما يساعد علي توزيع الثروة النفطية إلى ثروة مالية، وكذلك تمكين المزيد من الاستثمارات في الأصول الأجنبية المدرة للدخل.
كما أن البحث أوصى بأن تكون محفظة الأصول الأجنبية تريليون دولار إذ إن هذا سيولد دخلاً وعائداً سنوياً مستداماً بمبلغ (50) ملياردولار وهذا من شأنه أن يلغي الحاجة إلى مستويات الإقتراض الحالية العالية التي يتزاحم عليها القطاع الخاص والعام والتي أدت إلى مشكلة توفر السيولة اللازمة في البنوك لتمويل مشاريعهم المتعددة.
إن تنفيذاً ناجحاً لهذه السياسات المحلية والأجنبية قد يؤدي إلى (نموذج سعودي) فريد من نوعه، وهذا النموذح هو عنوان البحث (نحو نموذج سعودي جديد للاستثمار السيادي)، وهذا النموذج يجمع بين التنمية المحلية والتميز العالمي للاستثمار غرار النماذج المعمول بها في كل من كندا وجامعة ييل ودولة النرويج، علماً أنني في هذا الشهر سمعت أثناء مقابلة مع معالي محافظ صندوق الاستثمارات العامة بأن الصندوق يسعى إلى أن تكون نسبة التوزيع تساوي (80/20 %) في صالح الاستثمارات الأجنبية بدلاً من (50/50 %) المقترح في هذا البحث وقد يكون الاختلاف نتيجة زيادة حصة الحكومة في أرامكو السعودية.