عبداللطيف بن عبدالله آل الشيخ
من يتأمل مسار المملكة العربية السعودية في العقد الأخير يدرك أن سياستها الخارجية لم تعد مجرد ردود فعل ظرفية، بل تحولت إلى إستراتيجية متكاملة ترتكز على قاعدة صلبة: التحرك في الوقت المناسب، بالورقة المناسبة، وبالطريقة التي تحقق الهدف دون الحاجة إلى ضجيج.
وفي هدوء يرسم النفوذ فإن السعودية تُدرك أن السياسة لعبة طويلة النفس، لذلك تختار أن تعمل خلف الكواليس بهدوء، ثم تظهر النتائج على شكل اتفاق أو تحوّل استراتيجي يغير قواعد اللعبة.
هذا ما حدث في أكثر من محطة: من إعادة العلاقات مع إيران، إلى دور الرياض في السودان، وصولاً إلى التحالف الدفاعي مع باكستان، كلها شواهد على أن الفعل يسبق القول، وأن النتائج تُعلن نفسها بلا حاجة إلى استعراض.
وقد نجحت المملكة في الجمع بين أدوات القوة الناعمة (المساعدات، الاستثمارات، المبادرات الإنسانية، استضافة القمم) وبين أدوات القوة الصلبة (التحالفات الدفاعية، سياسات الطاقة، الشراكات العسكرية).
فعندما تضبط إيقاع أسواق الطاقة عبر «أوبك+» فإنها ترسل رسالة عالمية مفادها أن المملكة لاعب لا يمكن تجاوزه في الاستقرار الاقتصادي.
وحين تُطلق مبادرات سلام تخص فلسطين، فهي تحافظ على ثوابتها وفي الوقت نفسه تُبقي الباب مفتوحاً لحلول مستقبلية.
ومعلوم أن إستراتيجية المملكة تقوم أيضاً على المرونة: لا أبواب موصدة، ولا مواقف جامدة ما دامت المصلحة الوطنية حاضرة، فكل حوار ممكن.
من هنا جاء نجاحها في إدارة ملفات متناقضة أحياناً، مثل الحوار مع إيران، والتحالف مع باكستان، والشراكة الاقتصادية مع الصين، والتنسيق الإستراتيجي مع الولايات المتحدة.
هذه القدرة على إدارة التناقضات قوة سياسية تُجيد تحويل الخلافات إلى مساحات تفاوض.
وأحد أسرار الدبلوماسية السعودية أنها لا تتسابق على الميكروفون، بينما تملأ بعض الدول الساحة بالتصريحات المتناقضة، تختار «الرياض» أن تعمل في صمت، وعندما يتحقق الهدف، تُترك الساحة للآخرين يتجادلون في تفسيره.
هذا النمط يُكسبها هيبة إضافية .. فهي ليست دولة تلهث وراء الضوء، بل قوة تصنع الحدث وتجعل الإعلام يركض خلفها.
الدبلوماسية السعودية لم تعد مجرد سياسة رد فعل، بل مشروع إستراتيجي متكامل يدمج بين الحكمة والمرونة من جهة، والحزم وحماية المصالح من جهة أخرى.
هي دبلوماسية تُتقن لعبة التوقيت، وتُحسن قراءة الخريطة الدولية، وتعرف أن الضجيج لا يصنع المجد.
إنها ببساطة: دبلوماسية الأفعال لا الأقوال.