د. داليا عبدالله العمر
في مسيرة تطور الأمم، ظل توطين الوظائف ركيزة أساسية لخفض نسب البطالة وتحقيق التنمية المستدامة. التجارب العالمية أثبتت أن أي دولة تمنح أبناءها الفرصة لتولي المناصب القيادية والإدارية، وتوفر لهم بيئة عمل صحية برواتب عادلة، تكون أكثر قدرة على بناء اقتصاد متين ومستقر. على العكس، الاعتماد الطويل على الأجانب يؤدي إلى ما يسمى «البطالة المقنعة»، حيث يُقصى المواطن المؤهل من منصبه لصالح أجنبي قد يمكث لسنوات دون أن ينقل المعرفة أو يتيح المجال لخلف محلي، كما تعني البطالة المقنّعة أيضًا توظيف السعودي براتب بسيط جدًا لا يكاد يكفي ربع شهره ثم احتسابه موظفًا في السجلات الرسمية.
تشير دراسة منظمة العمل الدولية (ILO, 2022) إلى أن سياسات التوطين في دول شرق آسيا أسهمت في خفض معدلات البطالة بنسبة تجاوزت 30% خلال عقد واحد، وذلك من خلال ربط وجود الأجانب بعقود تدريبية محدودة المدة. أما البنك الدولي (World Bank, 2020) فقد أوضح أن الاستثمار في المواطنين يضاعف إنتاجية الاقتصاد على المدى البعيد، ويخلق فرص عمل غير مباشرة في قطاعات متعددة.
لا يمكن مقارنة موظف سعودي يعمل ويصرف دخله داخل المملكة لتقوية اقتصادها، بموظف أجنبي يحول الجزء الأكبر من راتبه إلى الخارج. تشير بيانات البنك الدولي إلى أن تحويلات العمالة الأجنبية تشكل نزيفًا سنويًا يكلّف الدول مليارات الدولارات، حيث يتم تحويل أكثر من نصف الدخل إلى بلدانهم الأصلية. وبحسب تقرير صندوق النقد الدولي (IMF, 2019)، فإن هذا الاستنزاف المالي يضعف قدرة الاقتصاد المحلي على النمو، مهما كان إنفاق الأجنبي محدودًا داخل البلد.
كما أن التجارب الأوروبية، مثل ألمانيا والدول الاسكندنافية (OECD, 2021)، بينت أن توفير بيئة عمل عادلة وصحية للمواطنين مع رواتب تنافسية، أسهم في تقليل الاعتماد على العمالة الوافدة، ورفع من مستوى الرضا الوظيفي، وأدى إلى خفض معدلات الاستقالات الناتجة عن «البيئة المسمومة» أو التمييز الوظيفي. ومن ناحية أخرى، أكدت دراسات منشورة في Journal of Human Resource Management (2020) أن التواطؤ أو التمييز داخل بيئة العمل يؤثر سلبًا على الإنتاجية الوطنية، وهو ما يستدعي قوانين تحمي الموظف المحلي وتضمن عدالة التوزيع الوظيفي.
إن الاقتصاد الوطني يخسر حين يُقصى السعودي من منصبه، ليس فقط لأن الأجنبي يحتفظ بالمكان، بل لأن الناتج المالي يعود في النهاية إلى خارج حدود الوطن. وحتى إذا استثمر بعض الأجانب بشراء عقار أو تأسيس مشروع، فإن الجزء الأكبر من ثرواتهم يبقى خارج المملكة، على عكس السعودي الذي يدور إنفاقه واستثماره داخل اقتصاده المحلي ويعيد تدوير القيمة لصالح وطنه.
منذ سنوات طويلة، شغل كثير من الأجانب في المملكة العربية السعودية مناصب مهمة في القطاعين العام والخاص. بعضهم مكث في هذه المناصب لسنوات طويلة، حتى بدا وكأنها أصبحت حكرًا لهم، بينما كان الأولى أن تكون مجرد محطات مؤقتة هدفها نقل الخبرة والمعرفة إلى أبناء الوطن، ثم ترك المجال للسعوديين لتولي القيادة.
الواجب الوطني يقتضي أن يكون وجود الأجنبي في أي منصب إداري أو قيادي محصورًا في إطار عقود محددة المدة، تُلزم هذا الأجنبي بتدريب شاب سعودي مؤهل ليكون البديل بعد فترة زمنية معقولة. هذه الآلية ليست فقط ضمانًا لحق السعوديين في تولي المناصب، بل هي استثمار حقيقي في رأس المال البشري الوطني.
لكن الواقع يشير إلى مشكلات أخرى. كثير من العاملين يروون تجاربهم مع أجانب في مواقع إدارية مارسوا أساليب ملتوية لإقصاء السعوديين، سواء من خلال خلق بيئة عمل طاردة، أو تشكيل تكتلات تضغط على الموظف الوطني حتى يضطر لتقديم استقالته. مثل هذه التصرفات لا تضر بالفرد وحده، بل تضر بالمصلحة الوطنية وتزرع بيئة عمل مسمومة تؤثر على الإنتاجية.
لهذا، من الضروري أن تُسن قوانين واضحة وصارمة تضمن عدم استغلال المنصب الإداري للإضرار بالسعوديين، أو تعطيل مسيرتهم المهنية. كما يجب أن يكون هناك إلزام حقيقي للأجانب بنقل المعرفة كاملة، وعدم حجبها أو استخدامها وسيلة للسيطرة على المنصب. فالمعرفة التي تُخفى هي معرفة ميتة، بينما المعرفة التي تُنقل وتُشارك تبني اقتصادًا قويًا ومجتمعًا منتجًا.
كذلك، من المهم وجود نصوص قانونية تنص على أن أي أجنبي - سواء كان في وظيفة مرموقة أو عادية - يثبت بشهادة شهود موثوقين أنه أساء إلى المملكة أو سبها أو انتقص منها، يتم الاستغناء عن خدماته فورًا ورحيله عن البلاد. فابن الوطن يملك حمية طبيعية على بلده، ومن غير المقبول أن يُستبقى من يسيء للوطن مهما كان منصبه.
أما النقطة الأهم، فهي ضرورة معالجة مسألة التواطؤ داخل بيئة العمل، فلا يجوز شرعًا ولا وطنيًا أن يتواطأ سعودي مع أجنبي ضد زميله السعودي. ديننا الحنيف نهى عن التناجي بين اثنين في حضور ثالث لما فيه من إيذاء، فكيف إذا كان هذا التواطؤ يُستخدم لإقصاء ابن الوطن من وظيفته؟ هنا يجب أن تكون العقوبة مغلظة، لأن الأمر لا يقتصر على ظلم فردي، بل يضرب قيم المواطنة والرحم الوطني.
من زاوية أخرى، لا بد أن نفرّق بين المستثمر الأجنبي وبين الموظف الأجنبي. المستثمرون يضخون أموالهم في الاقتصاد الوطني، ويخلقون فرصًا للعمل، وهذا مكسب مرحب به. أما الوظائف، فهي حق أصيل لأبناء البلد، والأولى أن يُستثمر في تدريبهم وتأهيلهم وتوليهم المناصب الحساسة، فهم الأقدر على خدمة وطنهم وحفظ مصالحه على المدى البعيد.
إن إعادة النظر في أعداد الأجانب داخل المملكة، والاقتصار على الحاجة الماسة جدًا، هو أمر يتماشى مع رؤية السعودية 2030 التي تضع المواطن في قلب التنمية. المطلوب هو أن يكون الأجنبي مكملًا مؤقتًا، لا بديلًا دائمًا.
الدروس المستفادة من تجارب الدول الناجحة تؤكد أن الحل الأمثل هو اعتماد سياسة واضحة تجعل وجود الأجنبي مؤقتًا ومرتبطًا بواجب تدريبي محدد، مع نقل المعرفة بشكل كامل ومنظم، وضمان أن تبقى المناصب في نهاية المطاف للسعوديين المؤهلين. بهذا النهج يمكن خفض البطالة، القضاء على البطالة المقنعة، وبناء بيئة عمل صحية تدعم المواطن وتضمن له استقرارًا ماديًا ونفسيًا. وهو ما يعود بالنفع المباشر على قوة الاقتصاد السعودي ومكانته في المستقبل.
** **
المراجع
International Labour Organization (ILO) (2022). World Employment and Social Outlook.
World Bank (2020). World Development Report: Trading for Development in the Age of Global Value Chains.
International Monetary Fund (IMF) (2019). Balance of Payments Statistics Yearbook.
OECD (2021). Employment Outlook.
Journal of Human Resource Management (2020). Studies on workplace equity and productivity.