منصور بن صالح العُمري
يرويها: الدكتور أسامة - استشاري جراحة الأورام
اسمي أسامة.
استشاري جراحة أورام منذ عقود من الزمن.
قضيت عمري بين غرف العمليات وأقسام التنويم، أتنقّل بين ملفات مرضى، وأصوات أجهزة، ووجوه عائلات متوترة.
المكان الذي لا تُوزّع فيه البشائر كثيرًا، بل تُنتزع فيه الأرواح من قبضة الألم، أو تُمنح فسحة جديدة للحياة.
في بداياتي، كنت أظن أن الجرّاح يحمل في يده مفاتيح النجاة للناس.
واليوم.. بعد السنين، أدركت أنّه بالكاد يحمل نفسه، كي لا ينكسر وهو يرى الوجع يتكرر أمامه كل يوم.
في الأسبوع الواحد، أمرّ على عشرات الحالات:
فتاة تودّع أحلامها مع التشخيص،
شيخ يواجه رحلة علاج طويلة لرفيقة عمره،
وطفلة تتشبّث بلعبة صغيرة وهي لا تدري لماذا يحيط بها الأطباء.
وأنا؟
أرتدي معطفي، أحمل مبضعًا، أشرح للمرضى خطط العلاج، وأُخفي خلف وجهي الصارم قلبًا مثقلًا بما رأى وعاين.
لا أنسى أبًا جئت إليه بعد عملية استئصال كبيرة، فقلت له إننا بذلنا ما نستطيع.. لكنه يجب أن يتهيأ للأسوأ.
رأيته يبتلع غصّته، ويمسح دمعة كادت تنفلت، ويدعو بصوتٍ خافت: «اللهم قوّني على ما تبقّى.»
حينها أدركت أن أصعب ما نعيشه نحن الأطباء ليس حمل المبضع.. بل حمل الكلمة التي تغيّر حياة إنسان.
وعرفت فتيات صغيرات قاومن السرطان بابتسامة، وشبابًا واجهوا تقارير لا تمنحهم أملًا طويلًا.
كنت أقول لهم: «سنكافح، سنبذل، والله أرحم.»
لكنني حين أعود لبيتي، أضع رأسي على الوسادة وأستحضر وجوههم، فأشعر أن قلبي يُقتطع منه جزء.
طوال سنواتي، كنت حين أُصلّي، أدعو لكل مريض باسمه أو بحالته، وأستودعهم الله الذي لا تضيع ودائعه.
لكن فجأة.. انقلب المشهد.
كنت في عيادتي أراجع صورًا شعاعية لمريضة، ثم شعرت بثِقل في رأسي، دوار متكرر، وضعف في بصري.
أجريت الفحوص.. فجاءت الكلمة التي لطالما قلتها لغيري:
«هناك ورم في الرأس.. نحتاج نعرف طبيعته».
في لحظة، تبدّلت الأدوار.
لم أعد الجرّاح، بل أصبحت ملفًا على مكتب زميلي.
الصور التي اعتدتُ أن أشرحها للمرضى.. كانت صوري.
والكلمات التي كنت أقولها لهم.. تُقال لي الآن.
تذكّرت كل من أخبرتهم من قبل بتشخيص صعب، وكل نظرة صمتٍ تبعت كلماتي.
الآن أنا في موقعهم.. أُجاهد كي أُطمئن أمي التي جلست بجانبي تبكي بصمت وتقرأ آياتٍ تتشبّث بها روحها. وأُسكّن روع أبي الذي لازال يعاني من مرض شقيقتي .
ليلة كاملة قضيتها أحدّق في سقف الغرفة، والأجهزة تراقب نبضي وضغطي. الأجهزة التي كنت أتابع نتائجها صارت اليوم تبوح بمعاناتي .
لأول مرة منذ أن لبست المعطف الأبيض.. سمحت لدمعة أن تسيل، لا من أجل مريض.. بل من أجل نفسي.
ثم جاء الفرج.
ظهرت النتائج: الورم حميد.
ابتسم الطبيب وهو يشرح خطة الاستئصال، وكأن كلماته تعيد إلى رئتي هواءً لم أتنفّسه منذ أيام.
عندها فقط، أدركت أنّ الله أراد أن يضعني لحظةً في موقع مرضاي، لأفهم بعمقٍ ما يختلج صدورهم.
لقد قضيت عقودًا أشرح لهم عن «الأمل» و»الصبر»، وها أنا اليوم أعيش الدرس على جلدي.
أيقنت أن أعظم شهادة أحملها ليست تلك التي تُعلّق على جدار العيادة.. بل تلك التي طُبعت في قلبي:
شهادة أن المرضى ليسوا أرقام ملفات، بل أرواح عظيمة تصبر، وقلوب تواجه، وأننا نحن الأطباء.. تلاميذ في مدرسة البلاء قبل أن نكون أساتذة في قاعات الطب.