خالد بن عبدالرحمن الذييب
تعبِّر حياة المبدع عن شخص من عالم آخر، حياة في الغالب لا تؤكل عيشاً ولكنها إذا تصالح فيها المبدع مع نفسه وعرف أن أهم ما في إبداعه أنه يسعد نفسه قبل غيره، وأنه يرى الحياة بمنظوره الخاص والمختلف، فهذا بحد ذاته نجاح شخصي. يحتاج المبدع ما يؤمِّن به حياته المعيشية، وما يبقيه على قيد الحياة ليعيش حياة كريمة فقط، واتركه يعيش كيف يشاء. عندما ترى، كاتباً أو أي مبدع في مجاله اتركه وحيداً في عالمه، ثق تماماً أنه يعيش أحلى لحظات حياته، هو الآن ملك الكون، لا هولاكو، ولا قطز، لا هتلر ولا نابليون، لا آيزنهاور ولا تشرشل يملك ما يملكه المبدع الآن.
ينطبق عليه في هذه اللحظة ما ينسب لإبراهيم ابن أدهم: «نحن في لذة لو علم عنها الملوك لقاتلونا عليها بالسيوف»، فهو في نعيم اللحظة، وسعادة الغيبوبة، ولذة المعرفة. هي لحظات يمشيها فوق السحب، يرى العالم من علو، من زاوية عين الطائر، ومع هذا العلو يدقق في التفاصيل بكل تواضع، لا يفوته شيء ولا ينسى شيئاً، فكل خلية في عقله تعمل هذه اللحظة، عقل يفكر بالماضي، وعقل يرى المستقبل، وعقل يتأمل الحاضر، وما بين تفكير، ورؤية، وتأمل ينتج إبداعاً قد لا يكون مفهوماً في حينه، وإن فهمه البعض لاحقاً سيظل مجهولاً للبعض الآخر.
أحياناً نفس هذا المنجز الإبداعي يكون مجهولاً لصانعه، لأنه في لحظة الإبداع سيكون شخصاً آخر، شخصاً مجهولاً حتى لنفسه، فالمبدع إنسان عادي عندما يخرج من صومعة إبداعه، ولكن عندما تأتيه الفكرة يتحول إلى شخص مختلف، حتى إيمانه ومعتقداته تذوب في الفكرة وقد تخالفها، فمن يمسك القلم هو شخص غير الكاتب، هي روح أخرى تعيش داخل الكاتب تتحيَّن لحظة الهروب، لحظة الإفراج، أو ربما لحظة الانطلاق. هي لحظة تشبه تلك الذرة التي يقول عنها العلماء إنها لا متناهية في الصغر، فتكثَّفت، وتفاعلت، وانفجرت لتكوِّن هذا الكون العظيم، لحظة الانفجار للمبدع مثلها مثل تلك الذرة، فهي عبارة عن طاقة هائلة من الأفكار تتكثَّف وتتفاعل لتنفجر للعالم عبر عمل إبداعي يمتع الناس وقد ينفجر في وجه صاحبه، فيبقى العمل الإبداعي خالداً عبر الزمن يحكي لحظة انفجر فيها عقل وغاب عنها جسد، وخُلِّدت فيها روح، لحظة غاب فيها صاحب الإبداع إلى الأبد، لتحكي عن أثره، كما نحكي عن أثر تلك الذرة.
أخيراً...
«لحظة اليوريكا» لحظة أرخميدس الأشهر في التاريخ تأتي فجاءة، ولكن يسبقها مخاض من التفكير وعُسر القلق، وشرود الذهن أو ربما.. شروقه.
ما بعد أخيراً...
ما نعتبره عند البعض «شرود» ذهن، هو عند المبدعين «شروق» الذهن عن فكرة عبقرية، أو إبداع جديد.