عبدالعزيز بن عليان العنيزان
دائماً ما تشهد مسألة صناعة القرار قبل اتخاذه أهمية قصوى على جميع المستويات فلا بد من التشاور والتساؤل والتأكد من رجاحة هذا القرار بين الخيارات المطروحة، ومدى احتمالية نجاحه والنتائج المترتبة على اتخاذه. وعلى مستوى السياسة الخارجية فإن صناعة هذا القرار هي عملية ليست بالسهلة لأن مخرجاته قد تنعكس بشكل سريع في الساحة الدولية على حسب الظروف والمستجدات المحيطة لهذا القرار.
ويوجد هناك نظريات مختلفة تشرح آليات صنع القرار ولكل منها مبادئ وفرضيات معينة تدرس بها عقلانية القرار في العلاقات الدولية من منظورها الخاص.
يمكننا هنا الإشارة إلى نظرية الاختيار العقلاني التي فرضت نموذجا مسمى بـنموذج الاختيار العقلاني، فقد وضعت من خلاله معايير محددة اعتمدت في بنائها بشكل رئيس على مبدأين هما تعظيم المنفعة وتقليل الخسارة. كما أنها تفترض كسائر النظريات المختصة في ذات الموضوع، بأنه في حال اتباع أدواتها ومعاييرها في مرحلة صناعة القرار بشكل عام والقرار السياسي بشكل خاص سيساهم ذلك في تحقيق العقلانية المطلوبة.
من جانب آخر، عند التدقيق بشكل أوسع بحركة التفاعلات الدولية نجد بأنه ليس من الضروري للدول اعتماد هذا النموذج أو أي نموذج عقلاني آخر عندما تصنع سياستها الخارجية؛ لأن خضوعها لنموذج عقلاني مع التزامها للمعايير والمحددات المفترضة لذلك قد يتعارض مع نهجها في السياسة الخارجية إذا كانت تريد التوسع وزيادة نفوذها في ميزان القوى العالمي.
كذلك هناك أسباب تجعل المبدأ العقلاني غير منطقي تتمثل بالآتي:-
1 - المبدأ الرئيس لأية دولة هو البقاء لذا عندما تتصاعد الصراعات والنزاعات تلجأ الأطراف الدولية إلى القوة للحفاظ على كيانها السياسي، بغض النظر عن العقلانية أو أية مبادئ أخرى تقيد السلطة السياسية من ضمان البقاء لوطنها. بمعنى أوضح هناك علاقة عكسية بين العقلانية ومتغيرات النظام الدولي، أي كلما تزداد نقاط الصراع وتنتشر ظاهرة عدم الاستقرار السياسي في الساحة الدولية، فإنه بشكل بديهي سوف تزول احتمالية اتباع الأنظمة السياسية لنمط السلوك العقلاني في العلاقات الدولية.
2 - إرهاصات اختلال ميزان القوى العالمي في النسق الدولي الراهن رغم مساعي الولايات المتحدة في عدم بلورة ذلك بشكل واضح في المشهد الدولي. لكنه أصبح ملموسا نوعا ما مع نمو الصين المتسارع في ظل الحرب التجارية، ومقدرة روسيا على مقاومة التحديات والتداعيات الاقتصادية الناتجة عن العقوبات المفروضة عليها بسبب غزو أوكرانيا.
ولهذا تتوحد الجهود بين موسكو وبكين لتشكيل قوة مضادة مع حلفائهم لإنهاء الهيمنة الأمريكية وإعادة هيكلة النظام الدولي، فمن هذا المنظور لا بد من الافتراض بأن المبدأ العقلاني للسياسة الخارجية لهذه القوى ليس بالأولوية حسبما تمليه المتغيرات الإقليمية والدولية في وقتنا الحاضر.
3 - الأزمات البيئية المعاصرة تدل على غياب العقلانية في ممارسات القوى الدولية بسلوكها الخارجي، لأنها نتاج للتنافسية المتزايدة على الموارد الطبيعية في البيئة الدولية والاستغلال المفرط لها. ما أدى إلى حدوث شح لبعض الموارد الطبيعية في مواقع جغرافية معينة، حيث أصبح هذا الأمر واقعا يدحض فكرة الاستدامة ذات المبدأ العقلاني المبتغى بها الحفاظ على موائل الطبيعة للأجيال القادمة من الحضارات البشرية.
نستخلص من هذه الأسباب بأن هناك مصاعب وعراقيل تحد من قابلية تطبيق العقلانية في القرار السياسي ضمن حركة التفاعلات الدولية الراهنة، وأيضا يصعب تعميم العقلانية كمبدأ أساسي في صنع السياسة الخارجية دون الأخذ بكافة الظروف الداخلية والخارجية المحيطة بذلك.
وفي النهاية، إن النظرية العقلانية بمبدأيها تعظيم المنفعة وتقليل الخسارة وغيرها من النظريات في هذا الاتجاه، يوجد بها تناقضات تطبيقية بين مفاهيم مثالية وواقع دولي تنافسي محفوف بالمخاطر والسلوك العدواني. كما يأتي ذلك في ظل سعي أطرافه إلى تحقيق المصلحة بغض النظر عن الأدوات المطلوبة لضمان وجود العقلانية في نتائج هذا القرار، بالإضافة إلى اختلاف التفسيرات والمعايير المحددة للعقلانية بين هؤلاء الأطراف كل على حسب وجهة نظره المبنية على المصلحة الوطنية.