د. محمد بن إبراهيم الملحم
هناك ظاهرة نعرفها جميعاً تتمثل في مدرسة ثقافتها التنظيمية لا تكافئ المجتهد ولا تُحاسب المقصِّر، ومع ذلك يبرز فيها معلم (أو معلمة) «يصنع الفارق»؛ فهو يشرح بإتقان، ويبني علاقة تربوية راقية، ويتفانى أحياناً بمزيد من وقته فوق وقت العمل فهو قد يحضر لدروسه المتميزة في وقت راحته بالمنزل ساعات طوال، بل قد يدفع من جيبه من أجل إحضار مواد توضح الفكرة التي سيشرحها ليستوعبها طلابه أفضل، وقد يحضر أيضاً لهم جوائز ومكافآت بسيطة تشجعهم على الانتباه والاهتمام بالفهم والاستيعاب والمشاركة أثناء الدرس، وإن بعض أولياء الأمور المدرسة قد يضع أبناءه بهذه المدرسة من أجل مثل هذا المعلم خاصة عندما يكونون في الصفوف الأولية. وقد يختار أيضاً بعض الطلاب أن يذهبوا لمدرسة ثانوية أبعد من المدرسة الأقرب لمنزلهم من أجل وجود معلم متميز في مادة من المواد المعروفة بصعوبتها كالرياضيات والفيزياء والكيمياء؛ وذلك لكي يتمكن من الاستيعاب والفهم الصحيح ويعد نفسه بشكل جيد لمستقبله الدراسي في الجامعة على يد مثل هذا المعلم المتفاني.
هؤلاء المعلمون لديهم معاناة مشتركة هي أن زملاءهم قد يثبطونهم، وذلك لكون أولئك الزملاء لا يقومون بنصف ما يقوم به هذا المعلم المتمكن والمتفاني في عمله بشكل كبيرن فهو يعطي الطلاب واجبات أكثر منهم (وهذا مزيد عمل عليه للتصحيح والتعليق)، وهو يجهز للطلاب أوراق عمل مكثفة أكثر منهم، وهو يمضي مع الطلاب أوقاتاً أطول منهم، وهو يأخذ الطلاب إلى المختبر أكثر منهم، وهكذا فإن هذه الممارسات من شأنها أن تكشف هؤلاء، ومع أنهم يؤدون في المستوى المتوسط الذي غالباً يرضي عنهم الإدارة والمسئولين ولا يعتبرون «مقصرين»، لكن عندما يظهر مثل هذا المعلم في كيانهم وإلى جوارهم، سواء كان ذلك بالانتقال للمدرسة أو بحداثة التعيين ثم نمو تطور المعلم في فترة قليلة جداً (سنة أو سنتين) ليفوقهم أداء وتفانياً، فإن ذلك سيجعل من أدائهم المتوسط متراجعاً في نظر من يقيمهم ويزن أداءهم. ولهذا السبب يعمد هؤلاء إلى التثبيط بل إن لغة التثبيط قد تظهر في وقت مبكر جداً من بدايات اجتهاد مثل هذا المعلم، وتتمثل في تكريس القول له إن ما تفعله لن تجد له مردوداً عليك أنت شخصياً فلن يزيد راتبك (كما أنه لن ينقص إذا لم تؤدِ هذا الأداء واكتفيت بالمستوى المتوسط مثلنا)، ولن تجد أيضاً من يكافئك ويهتم بك ويحتفي بإنجازاتك فلماذا التعب «على الفاضي»؟!
وهناك عدة أسئلة حول ذلك: فلماذا يظهر هؤلاء؟ ولماذا يصمدون رغم التثبيط أحيانًا؟ ويمكن تفسير ظهورهم من خلال أمرين: أولها «الرسالة» فكثير من المعلّمين يدخلون المهنة بدافع خدمة المجتمع وإحساسهم بدورهم الرسالي في ذلك، وتربط أبحاث الإدارة العامة والأداء التعليمي بين الدافعية الخدمية ورضا المعلم الداخلي، بل إنها تجد ارتباطاً مع أداء الطلاب الجيد، وثاني هذا التفسيرات «الدافعية الذاتية» التي ذكرتها نظرية تحديد الذات Self-Determination Theory فإنه حتى حين يغيب التعزيز المؤسسي، فقد يجد المعلّم غذاءه النفسي من خلال الاستقلالية، والكفاءة، والانتماء داخل صفّه، حيث هو يختار بنفسه طرائق تدريسه ثم يرى أثره على تعلّم الطلبة كما يشعر بعلاقة إنسانية معهم، فكل ذلك يدعم المثابرة لجودة الأداء مما ينعكس على رضاه ويغذي باستمرار دافعيته الذاتية للعطاء.
أما سبب صمودهم رغم التثبيط فيعود أولاً إلى ما يسمى «المرونة المهنية» Resilience وهي صفة لدى كل موظف منتم لمهنته محب لها، وتُظهر الأبحاث أن «مرونة المعلّم» عاملٌ حاسم لفعاليته وقدرته على الاستمرار رغم الظروف الصعبة والضغط وهو ما يمكن أن يعبر عنه بالقدرة على التكيّف مع التحديات دون فقدان القيمة، وهناك أيضاً عامل آخر هو «الأمل المهني»، حيث إن هذا الأمل يرتبط معاً بمعان عليا ويرتبط كذلك بتحوّل «الإنجاز اليومي» إلى مُكافأة داخلية لدى الفرد ذاته، وهذا كله يزيد احتمالية الاستمرار في العطاء حتى حين يغيب التقدير المادي، ثالثاً توجد أحياناً شبكات دعم دقيقة غير رسمية حيث يصنع أمثال هؤلاء المعلمين دوائر دعم صغيرة فيما بينهم من الزملاء المماثلين لهم وأحياناً تكون هذه الدوائر الداعمة متمثلة في أولياء الأمور المقدرين للعطاء وربما أيضاً مدير مدرسة متفهم ومشجع، فكل ذلك يوفّر غطاءً بسيطاً مما يجعل هذه «الجزر الداعمة» تكفي لتمكينهم من الاستمرار. ولابد من كلمة أخيرة نهمس بها في أذن المؤسسات التعليمية باختلاف مستوياتها: لا تفقدوا هذه الثروة وحافظوا عليها، كيف؟ لا أدري.. سأترك ذلك مساحة للإبداع.