عمرو أبوالعطا
على امتداد شواطئ الجزيرة العربية، ومن دلتا النيل وحتى سواحل شرق إفريقيا، كانت البحار طريقًا فريدا لربط البشر والبضائع والثقافات. لم تكن السفن العربية مجرد أدوات لنقل البضائع، كانت وسيلة لإطلاق حركة حضارية واسعة، تجمع بين العلم والتجارة والدين. لقد عرف العرب منذ العصور الإسلامية الأولى أن البحر مساحة مائية وكتاب مفتوح للعقل والملاح، يمكن من خلاله فهم النجوم والرياح والمد والجزر. هكذا نشأت ما يُعرف بـ»علم البحر»، الذي يجمع بين الجغرافيا والفلك والرياضيات والقياس الدقيق للمسافات، ويُدرس عبر الملاحظة المباشرة والتدوين المنهجي.
كان الخليج العربي والمحيط الهندي مسرحًا لهذه المعرفة، حيث تنقلت السفن بين اليمن وحضرموت وعُمان، مرورًا بسواحل فارس والهند، وحتى شرق إفريقيا وجزر الهند الشرقية. على هذه الطرق البحرية، نشأت مستوطنات تجارية، مثل كانتون في الصين، وجزر نيكوبار وجاوة وسومطرة، حيث كان التجار العرب من حضرموت واليمن يسيطرون على حركة البضائع والمنتجات الفاخرة. لم يقتصر الأمر على التجارة، امتد إلى بناء مجتمع حضاري مستقر، فيه الميناء مكان للتبادل التجاري والثقافي، والمسجد مكان للتعليم والتواصل الاجتماعي. وفي هذا العالم البحري، يظهر أحمد بن ماجد، الملقب بـ»أسد البحر»، ولد في جولفار بعُمان حوالي عام 1432. نشأ في أسرة عريقة في علوم البحر، فأبوه وأجداده كانوا من الملاحين الذين عرفوا أسرار الرياح والتيارات والمد والجزر. وفي سن السابعة عشرة، أصبح ابن ماجد قادرًا على الإبحار بخبرة واسعة، يجمع بين الملاحظة العملية والقدرة على قراءة النجوم والكواكب. عمل على تدوين خبراته وملاحظاته في موسوعة ضخمة عنوانها «كتاب الفوائد في أصول علم البحر والقواعد»، حيث جمع قرونًا من المعرفة الملاحية، من وصف الموانئ وأماكن الرسو، إلى تفاصيل الرياح الموسمية وكيفية استغلالها، ووضع قواعد دقيقة لقياس ارتفاع النجوم لتحديد خطوط العرض.
ولم يكتفِ ابن ماجد بالتدوين النظري، بل ساهم في تطوير أدوات الملاحة. فقد حسّن من أداء البوصلة عبر وضع إبرة المغناطيس في صندوق متحرك ليضمن ثباتها، كما طور أدوات مثل الكمال لتحديد ارتفاع النجوم بدقة، وقدم قياسات وحدات المسافة مثل الترفة والإصبع والزام، لتصبح ملاحة العرب في المحيط الهندي علمًا متكاملًا يربط النظرية بالتطبيق.
توالى على هذا الإرث سليمان المهري من شحر في حضرموت، المولود عام 1480. أخذ المهري خبرة ابن ماجد وطوّرها، وجمعها في أعمال مهمة مثل «العمدة المهرية» و»المنهاج الفاخر في علم البحر الزاخر» و»تحفة الفحول في تمهيد الأصول». اختصر قائمة النجوم المستخدمة في الملاحة من سبعين نجمًا إلى خمسة عشر، فسهّل عملية الإبحار عمليًا، وأثبت أن العلم البحري العربي كان تقليدًا حيًا، متطورًا، قابلًا للتحديث والتكييف مع متطلبات الواقع العملي.
كانت التجارة البحرية الإسلامية شبكة عالمية متكاملة، تشمل السواحل الشرقية لإفريقيا مثل كينيا وتنزانيا وموزمبيق ومدغشقر، وتصل إلى الهند وسومطرة وماليزيا، مرورًا بموانئ الخليج العربي واليمن. كانت وسيلة لنقل الأفكار والعلوم والدين. فقد ساهم التجار المسلمون، خصوصًا من جماعات الغوجاراتي والبنغاليين، في نشر الإسلام والثقافة الإسلامية في جزر الهند الشرقية وجنوب شرق آسيا، ليصبح البحر حاملًا للمعرفة والدين والثقافة.
حتى بعد وصول الأوروبيين إلى المحيط الهندي، بقي إرث العرب البحري حيًا وفاعلًا. فالدولة العثمانية اعتمدت على أعمال ابن ماجد والمهري في حملاتها ضد البرتغاليين، مستخدمة تلك المعارف لتوجيه السفن واستراتيجية المعارك البحرية. وهذا يوضح أن العلم، عندما يكون متينًا ومنهجيًا، لا يزول مع التغيرات السياسية، بل يظل إرثًا خالدًا يؤثر في الأجيال اللاحقة، ويثبت قيمة المعرفة العملية والعلمية المستقلة عن القوة الاقتصادية والسياسية.
وقد أتاح البحر للعرب تطوير أدواتهم ومعارفهم بشكل دقيق. فالعرب درسوا النجوم والكواكب لتحديد خطوط العرض والطول، وفهموا المد والجزر والرياح الموسمية، وصمموا أدوات مثل الكمال والربع والأسطرلاب والخشبات لقياس ارتفاع النجوم والزوايا الفلكية. كما طوروا وحدات قياس دقيقة مثل الترفة، الزام، والإصبع، لضمان دقة تحديد المسافات والمسارات البحرية. هذا الاهتمام بالتفاصيل جعل الملاحة العربية أكثر تطورًا من أي وقت مضى، وربط بين الخبرة الميدانية والمعرفة النظرية، وبين التجربة العملية والفهم الفلكي العميق.
وبين شخصيات الملاحة العربية، يظهر أيضًا الأدميرال العثماني سيدي علي رئيس، الذي عاش في القرن السادس عشر، واستفاد من كتب ابن ماجد والمهري، مؤكدًا أن «الملاحة بدون هذه الكتب صعبة للغاية». فقد أثبت هذا الاعتماد أن الإرث العلمي العربي كان أساسًا للتفوق البحري العثماني، حتى في مواجهة القوى الأوروبية الجديدة، وأن المعرفة العلمية قد تتجاوز الحدود السياسية والزمنية، لتظل فعالة وحيّة.
لقد أظهرت دراسة تاريخ الملاحة العربية أن العرب لم يكونوا مجرد تجار وبحارة، كانوا علماء ومفكرين. فقد جمعوا بين الفهم العملي للبحر، والقدرة على قراءة النجوم، وحساب المسافات والاتجاهات، وتوثيق خبراتهم في مؤلفات دقيقة، ما ساهم في رسم صورة شاملة ودقيقة للمحيط الهندي وسواحله وجزره. وبذلك، أصبح البحر كتابًا مفتوحًا، يقود إلى فهم العالم وربطه بثقافات وحضارات مختلفة، ويثبت أن الحضارة الإسلامية كانت في أوجها لا بالسيطرة العسكرية أو الاقتصادية فحسب، بل بالعلم والمعرفة التي تركت أثرها الممتد على مدى القرون.