د. عبدالحق عزوزي
إن التنمية الحق هي التي تظهر آثارها -إيجاباً- على الوطن والمواطنين، وليس خدمة لتقدم الآخر المهيمن على مفاتيح هذا التقدم والمتحكم فيها، والمتحكم بالتالي في الإبقاء على مظاهر تخلف الطرف التابع. وهي حالة تظل منعكسة عند الطرفين -المتقدم والمتخلف- على سائر مجالاتهما الحضارية والثقافية، ليس اقتصاديا فقط، ولكن كذلك سياسياً واجتماعياً وثقافياً، ولا سيما على الطرف الثاني، مهما يكن النموذج الذي يحاول اقتفاءه وتقليده، أو الإيديولوجية التي يظن أن انتماءه إليها قد يحرره؛ في حين أنها في الحقيقة لا تعمل إلا على المزيد من تكبيله بالهبات والقروض والمساعدات التقنية، وحتى بالاستثمارات التي يتوهمها مشروعات تنموية نافعة قد يصبح بها ذا قدرة إنتاجية وقوة اقتصادية تؤهله للتكامل مع الآخر أو التنافس معه. وهي في الواقع عائق وعامل عرقلة.
ومع هذا، فإن اعتماد مثل تلك المشروعات المحدودة قد يخفف من استنزاف إمكانات البلدان المتخلفة التي توصف بالنامية أو بالسائرة في طريق النمو. وقد يساعدها على مواجهة بعض مستويات الفقر والجهل والمرض، وما قد تضطر إليه هذه البلدان من نفقات للتغلب على النكبات الطارئة عليها، أو التسلح لرد الأخطار التي قد تحدق بها في سعيها إلى حماية كيانها ووحدتها من كل ما يهدد أمنها واستقرارها.
وهكذا، فإن التنمية في عمقها هي كل مجهود يبذله الفرد والمجتمع، انطلاقاً من موارده البيئية وقدراته الذاتية، وانسجاماً مع خصوصياته، باعتباره هو الممثل للثروة الحقيقية من أجل تقدمه ورقيه في جميع ميادين الحياة ومستوياتها الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، بما يجعلها في النهاية تتسم بالشمول الذي تدمج في بوتقته كل معطيات الحياة، مع القدرة على تجاوز كل ما يعوق ذلك من اختلال وفساد.
هذا، مع تأكيد الحاجة إلى الانفتاح الداخلي بفكر نقدي وتوجه عقلاني ونظام منفتح، وبعلم نافع وحرية مسؤولة، وبالابتعاد عن كل ما يُلقي بالتبعة في تخلفه على عناصر مكذوبة، كالعنصر الجنسي أو المعتقد الديني وما إلى ذلك من تعليلات.
على أنه إذا كانت الأسباب المفضية بالفعل إلى التخلف عديدة، وراجعة في حالات منها إلى بيئة بعض المجتمعات وطابعها التقليدي وطبيعة السكان، فإن أسباباً أخرى كان لها تأثير كبير، بدءاً من الاستعمار الذي استبد بخيرات البلدان التي احتلها، وما خلف من آثار سلبية بعد التحرر منه، خاصة فيما يتعلق بتحكم جهات أو فئات معينة في وسائل الإنتاج؛ مما أدى إلى الاستبداد بأرباح هذا الإنتاج، وأدى في النهاية إلى طبقية يبرز فيها التفاوت، ما بين غني يزيد غنى وفقير يزيد فقراً -كما سبقت الإشارة إلى ذلك- ومما نتج عنه بعد ذلك تفكك اجتماعي لا يلبث أن يفضي إلى شلل المجتمع، ولا سيما حين يمس هذا التفكك كل مظاهر الحياة، بدءاً من فقدان روح المواطنة. وقد يصل إلى تهديد كيان الوطن ووحدته.
وهو ما يحتم إعادة النظر في قضية الثروة، مما يقلل إمكان خلق مجالات إنتاجية جديدة ذات أهداف بشرية تعتمد المبادرة والمنافسة، وتفتح آفاقاً للتشغيل تنعكس -إيجاباً حين توجد- على حاجيات المواطنين في جميع الميادين، ولا سيما التعليم والصحة والشغل وما إليها من ضرورات اجتماعية هي في وضعها الحالي لا تنمي في البلدان المتخلفة غير الفقر والجهل والمرض. يضاف إلى ذلك ما يتعلق بالتأهيل الذي لا يثمر بسبب تعثر التعليم وضعفه وتراكم مشكلاته وما لها من تأثير، ليس فقط على سير دواليب الدولة، ولكن كذلك على المواطنين، وعلى العقلية التي تتحكم في سلوكهم وعلاقاتهم، وفي إضعاف فاعليتهم للعمل والإنتاج، زيادة على انتشار عدد من الانحرافات، كسوء الخدمات، وتفشي الغش والرشوة والرغبة في الربح السريع وإن غير مشروع، والميل إلى المبالغة في الاستهلاك المادي المتجاوز للإمكان، مما ينتج عنه استفحال ظاهرة التداين، سواء بالنسبة للدولة أو المواطنين.
وغالباً ما تقترن هذه الأسباب بالارتجال في اتخاذ القرارات، مما يقلل العناية بالمبادرات الذاتية، مهما تكن صغيرة ومحدودة، ويشيع الإحساس بالإحباط وعدم الثقة في النفس والآخرين والوطن برمته. وهو ما يعمل على ترسيخ ظروف التخلف وآثاره.
ولعلنا بهذه المقارنة أن نستخلص أن التنمية ليست اقتصادية فحسب كما هو شائع، أو كما هو مفروض على البلدان المتخلفة فهمه وقبوله والانقياد له، ولكنها شاملة بناء على شمولية حاجات الإنسان واستدامتها، في إطار من التكامل والتناسق والتوازن والتآلف والتوافق.