د.محمد الدبيسي
.. ودور المنهل في هذا الجانب في قيمته وأثَرِهِ، يفوقُ ما عداها من صحُفٍ صدرتْ قبلها، كان الأدب من بين اهتماماتها، والأدباءُ يمدُّونها بإنتاجهم بين فينةٍ وأخرى، ورؤساء تحريرها من الأدباء، مثل: أم القرى، وصوت الحجاز، يقول الدكتور عبدالله الحامد: «وأهمُّ من هذه الصُحُفِ؛ مجلةُ المنهلِ، بل هي أهمُّ مصدرٍ ومرجعٍ للشعر ودراسته في المملكة..، واستمرتْ قرابةَ نصف قرنٍ تواصلُ رحلتها الجليلة الصعبة..، ولقد ظلت المنهلُ لسانَ الأدب والفكر في المملكة، طوال نصف قرن، بفضلِ ما لصاحبها العالِمُ الأديبُ الشاعرُ عبدالقدوس الأنصاري-طيب الله ثراه- من قَدَم صِدقٍ وقِدَم جهد».
وإلى ذلك، فتكثُّفُ أثرُ المنهل، وموقعها في سياق الخطاب الأدبي والثقافي الوطني، كان أبلغَ تأثيرًا، وأعمقَ رسوخًا وامتدادًا، من دورها ومكانتها بين المجلات الثقافية العربية المُمَاثِلة في الفضاء العربي، التي فاقتها فاعليةً، وتمايزتْ عنها في اجتذابها صَفوةَ المفكِّرين والأدباء العرب، من رُوَّاد عصر النهضة، ومن جاء بعدهم من المفكرين الفاعلين في المشهد الثقافي العربي، وفي تسليطها الضوء على القضايا الجوهرية في الفكر والثقافة والتنوير، وأسئلة المستقبل وآفاقها، والحفاوة بالأطروحات الجديدة حولها، ومرجعياتها الفلسفية، كما هو الحال في مجلة العربي الكويتية، التي جاوزَ أثرُها حيِّزَها الإقليمي المحدود، وكانت أكثر حرصًا على الانفتاح على الثقافة العربية وقضاياها، والحفاوة برموزها، من المنهل، بفضل الدعم الرسمي غير المحدود لها، وبفضلِ الفكر المؤسَّسِي الذي يُديرها ويُسيِّرها، والحاضنة المؤسَّسَية التي ترعاها، والغايات المعرفية، وغير المعرفية التي كانت وراء تأسيسها، ثمَّ استمرارها وتطورها، ومواكبتها تحولات الواقع الثقافي العربي، ومتغيراته. إلى جانب تنوُّع فعالياتها، التي لم تنحصر في إصدار العدد الشهري من المجلة، بل كانت لها إصدارات فصلية، ضمن سلسلة (كتاب العربي)، وندواتٌ وملتقياتٌ علميةٌ سنويةٌ؛ عُنيت بقضايا ثقافية وحضارية متعددة، وشارك فيها مثقفون وخبراء من مختلف الأقطار.
وهو ما لم يتوفَّر للمنهل، التي كان يُديرُها فكرٌ فرديٌّ، مهما توفَّرَ لصَاحِبهِ من إرادةٍ متوقِّدَةٍ، ومقوماتٍ ثقافيةٍ ومعرفيةٍ، ودافعيةٍ قِيميَّةٍ، فإنَّه لم يستطع تجاوز الأفق المحليِّ كثيرًا، واكتفى بالزخم الذي تحقَّقَ للمجلة في إطاره، مع حرصه إلى إكسابِ المجلة امتدادًا عربيًا، لم تتوفَّر له أسبابه دائمًا. مع ما كان للمجلة من حضورٍ وقبولٍ في عديدٍ من الأقطار العربية، ومشاركة طائفةٌ من أدباء تلك الأقطار بالكتابة فيها، بوصفها نافذةً لأصواتهم على مثقفي الجزيرة العربية وقرائها، وتقديرًا لمكانتها الأدبية، يقول الأستاذ حسين عرب: «لقد تقدَّمَ المنهلُ بشكلٍ ملحوظٍ، حتى أصبح أوَّلَ مجلاتِ هذه البلاد، بل مِن أظهرِ المجلات العربية العلمية والأدبية، وحسبك أنَّك تقرأُ فيها أقلامًا من العراق والكويت، ولبنان وسورية، ومصر والمغرب، وتونس وليبيا، وغيرها من الأقطار العربية، إلى جانب كُتَّابِ الجزيرة العربية، والمملكة السعودية، لتعرفَ أنَّ المنهلَ من الجميع للجميع». وربما كانت مثل هذه الإشَاداتُ والشَّهاداتُ، والثَّناءاتُ السَّخيةُ، التي كانت تُتْلى على مسامع الأنصاري، وتتردَّدُ في السَّاحة الثقافية؛ سبَبًا في اكتفائه بما حقَّقتُهُ المنهل في عهدِهِ من حضورٍ وذيوعٍ وتأثيرٍ، صَرَفهُ عن تكوين قاعدةٍ مؤسَّسيةٍ لها، وإشراك غيره من الأكفاءِ المؤهَّلين، في إدارتها، واختطاطِ نهجٍ استراتيجي لها، لضمان استدامتها، ومواكبة التَّغيراتِ التي استجدتْ في حياته، وبعد وفاته، ليكُونَ للمنهلِ ما كانت جديرةً به، ومستحقَّةً إياه.
ومن مظاهر وعي الأنصاري، وسعة أُفُقه الثقافي، في سياق اهتمامه بالأدب والثقافة؛ تخصيصه بابًا للأدب الشعبي، في المجلة الثقافية الرصينة، وتميَّز البابُ بطروحٍ ثقافيةٍ متنوعةٍ، في شؤون الأدب الشعبي وقضاياه، ولم يكن مضمونه شعبويًا، أو سطحيًّا مبتذلًا، بل جاء بحسب شروط الأنصاري؛ مضمونًا يُبرزُ رؤيةَ ذلك الأدب وأنماطه الأصيلة؛ في صورة (قصَّةِ مَثَل) من الأمثال الشعبية الشَّائعة، ويوردُ المحرِّرُ قصةَ المثلِ، والمناسبةَ التي قِيلَ فيها، أو التعريفِ بالشعراءِ المجودين في هذا اللون من الفنِّ في الجزيرة العربية، ونشر إنتاجهم الشعري، وإبراز الأبعادِ الإنسانيةِ، والقِيمِ الرفيعة، والسِّماتِ الجماليةِ فيه، وتشجيع الشعراء المبتدئين على النشر في المجلة، وما إلى ذلك من مسائل متعلقة بالأدب الشعبي. ومن لطيفِ ما يمكنُ إيرادُهُ في هذا السياق، أنَّ صاحبَ المنهل؛ أفرد صفحةً في المجلة في عدد المحرم وصفر/1393هــ= مايو وإبريل/1973م، نشرَ فيها قصيدةً شعبيةً للشاعر خلف بن هذال العتيبي، كان الشاعرُ قد ألقاها أمام الملك فيصل بن عبدالعزيز، في حفل الاستقبال الذي أقامه جلالة الملك، لرؤساء بعثات الحج الرسمية في منى، ثاني أيام عيد الأضحى عام 1392هــ، وكان الشاعرُ آنذاك؛ طالبًا في المدرسة العسكرية التابعة للحرس الوطني، وكانت تلك أوَّلَ قصيدةٍ لابن هذال تُنشرُ في صحيفة.
ولم تغب المرأةُ المثقفةُ عن ورُودِ المنهل، فكان رئيس التحرير يعي أهميةَ دورِها، ويؤصِّلُ له في أبحاثه التي يكتبها، كما سنطالعُ في المبحث الذي سنورده له، ضمن مقالاتِهِ في هذا الكتاب، عندما وثَّقَ (دورَ العَالِماتِ من الأسرة الطَّبرِيَّة في حركة العِلْمِ في الحجاز)، ثمَّ افساحه المجال للكاتبات من مختلف البلادِ والاتجاهات للنشر في المجلة، وهي من الأوَّليَّات التي عدَّها الأنصاريُّ للمنهل، وقد تطوَّرَ هذا البابُ، حين جعلتِ المنهلُ للمرأةِ مجلةً خاصَّةً تصدر عنها، بعنوان: (هُنَّ)، إلى جانبِ مشاركاتِ المرأة، في الأبوابِ الأخرى في المنهل الأُم.
ومما يجدرُ التَّنويهُ به في سياق مسيرة المنهل؛ انفتاحُها على ألوانِ الطيفِ الثقافي الوطني، والعربي نسبيًّا، ففي (العشرين) عامًا الأُولى من نشأتها، كًتَبَ فيها كُلٌّ من: عبدالرحمن بن سَعدي، وروكس العزيزي، والسيد عَلوي المالكي، وإسماعيل الأنصاري، وعبدالعزيز بن باز، وأنور الجندي، ومحمد بهجت البيطار، ومحمد حسين هيكل، ومحمد البشير الابراهيمي، ومحسن باروم، وعبدالهادي التَّازي، وحمد الجاسر، ومحمد عبدالله مليباري، ومحمد حسن عواد، وعزيز ضياء، وأحمد الغزَّاوي، وعبدالله عبدالجبار، ومحمد بن علي السَّنوسي، وأحمد رضا حوحو، ومحمد العقيلي، ومحمد بن مانع، وأحمد السُّباعي، ومحمد سرور الصبَّان، ومحبُّ الدين الخطيب، ومحمد فؤاد عبدالباقي، وخالد الفرج، ورشدي ملحس. ومِن بعض هؤلاء من داومَ على الكتابة فيها إلى عامها (الخمسين)، ومنهم من تُوفيَّ قبل ذلك، أو توقَّفَ عن الكتابةِ في المجلة، ومنهم نَفرٌ لم يتجاوز ما نشره فيها بِضع مقالات.
ومن غير هذه الطائفة من الكُتَّاب والمفكرين، من استمر في الكتابة في المنهل، أثناء حياة المؤسِّس، ومنهم من انتقل بعد ذلك إلى صُحُفٍ أخرى، عندما بدأ تأسيس المجلَّات الثقافية الوطنية المتخصِّصة.
وفي هذه الأسماء ما يحيلُ ذهنيًا إلى اتجاهاتها الفكرية، واهتماماتها المعرفية، أو الأدبية، ويُظهرُ مضمون ما كانت المنهلُ تحفلُ به من القضايا والكُتَّاب، الذين كانوا على هذا النحو المتنوع؛ المتباين بين بعضهم، والمتوافق بين البعض الآخر، مع ظهور السِّمات التفصيليةِ التي تُستبانُ في رؤية وأسلوب الصنفِ الأخير من الكُتَّاب، وما كان يُعنى به ويطرحه من قضايا. والأمرُ في الأحوال جميعها؛ يُبرزُ الثراءُ النوعي في أطروحاتِ المنهل، والمساحةِ المُتاحةِ فيها لجُلِّ المذاهبِ والاتجاهات، وصنوفِ المعرفة، وألوانِ الثقافة المتنوعة.
ومن الأسماءِ السَّابقةِ واتجاهاتِها، إلى الأبوابِ والموضوعاتِ التي عُنيت المنهلُ بها، أثناء (خمسين) عامًا تقريبًا في حياةِ المؤسِّس، وسلسلة المقالات والمباحث التي صارت فيما بعدُ؛ كُتبًا أصدرَها مؤلِّفُوها، بعد نشرِ موضوعاتها منجَّمةً في المنهل. ومن ذلك على سبيل المثال: جُلُّ مؤلَّفَاتِ عبدالقدوس الأنصاري، التي نشر محتواها متسَلْسِلًا في المنهل، ثم أصدَرَ كلًّا منها في كتاب، وأيضًا، وعلى الطريقةِ ذاتها، كتاب: (أُمراءُ المدينةِ المنورةِ وحُكَّامُها من عهد النُّبوَّةِ حتى اليوم)، للسيد أحمد ياسين أجمد الخياري الأزهري، طُبعَ طبعةً أُولى على نفقةِ ورثَتِهِ عام 1382ه=1962م، وكتاب: (المدينةُ بين الماضي والحاضر)، للشريف إبراهيم العياشي، المكتبة العلمية، المدينة المنورة، ط1، 1392ه=1972م. وكتاب: (شَذراتُ الذهب)، لأحمد إبراهيم الغزَّاوي، إصدارات المنهل، ط1، 1407ه=1987م. وكتاب: (رحلةُ العُمُر)، لمحمد عبدالحميد مرداد، نادي مكة الثقافي الأدبي، ط1، 1410ه=1990م، وغيرها. وجميع هذه الكُتُبُ طُبعَ غير مرةٍ، بعد طبعَتِهِ الأُولى، وعلى مراحلَ زمنيةٍ متفاوتة.
والملاحَظُ في محتويات المجلة وطروحاتها؛ تحقيقها شعار المجلة: (مجلةٌ تخدمُ الأدبَ والثقافةَ والعِلْم)، وسابِقِهِ، وبدائله، ومرادفاته، من الصِّيغ الأخرى التي مرَّت بنا سابقًا، التي اتخذتها المنهل إبان حياة المؤسِّس، وتمحورت دلالتها على الغايةِ ذاتها. وكان الأدب فيها مكوِّنًا رئيسًا، فلأَجْلِ النهوض به أسَّسَها صاحبُها، بدافعٍ من حُبِّه وفهمِهِ له، ووعيه برسالته، يقول: «ليس الأدبُ أداةَ تسليةٍ، أو فنَّ لهوٍ وتمضيةِ الوقت، بل إنَّه أسمى الفنونِ التي تنهضُ بها الأممُ وتنعشُها، وكم للأديبِ المخلصِ من أثرٍ فعَّالٍ في ترقيةِ مستوى الأُمَّةِ الاجتماعي والاقتصادي والثقافي والعمراني معًا»، والبُعد الرِّسَالي في هذا الفهمِ، لأهميةِ الأدب ودوره، هو الذي استدعى الاهتمام بالموضوعات المبي َّنة في الجدول الآنفِ، ودعا إليها.
وعنايةُ المنهلِ (المجلة الأدبية) والمشروع الثقافي الوطني الفردي؛ بقضايا وطنية عامة، في بدايات نشأة الدولة، والحفاوة بالأنشطة التي كانت تقوم بها آنذاك، وإبرازها، من المقاصد الرئيسة التي كان الأنصاريُّ يرومها، وهو يعي طبيعة العلاقة بين المجلة والدولة، والمشتركات بينهما، يقول: « إنَّ المتتبعَ لهذا التطور في مجلتنا المنهل، إنَّما يشعرُ بمدى نهوضنا في كافة المرافق الثقافية والعمرانية والحيوية، وغيرها من الأعمال الجِسام. ولستُ مبالغًا إذا قلتُ: إنَّ المنهلَ في شكله الحالي؛ لهو دلالةٌ واضحةٌ على تقدُّمنا العام»، إلى جانبِ عنايتها بقضايا عربيةٍ قوميةٍ عامةٍ، شكَّلتْ طورًا من أطوار التاريخ المعاصر في بعض الدول العربية، وكفاحها الوطني ضد الاستعمار.
وفي سياقها الأدبي المحض، كان للمنهلِ دورٌ لم تُسبق إليه، أسَّسَ مرحلةً من المراحل المفصلية في مسيرة أدبنا الوطني، وتمثَّلَ بعنايتها بفنِّ القِصَّة في الأدبِ السعودي، في مدةٍ لم ينضج فيها الوعي بقيمة هذا الجنس الأدبي، ولم يكن الاهتمام به شائعًا، أو مُعبِّرًا عن قيمته الأدبية، وإن كان ثمَّة من يدركُ أُصوله الفنية التقليدية، من أدباء ذلك الجيل، ويُطالع نماذجَ منه في آدابٍ عربيةٍ وأجنبيةٍ أخرى، بواسطةِ مجلاتٍ ثقافيةٍ عربيةٍ، وكُتُبٍ ومجموعاتٍ قصصيةٍ مطبوعة، من أمثال الأدباء: محمد عالم أفغاني، وأحمد رضا حوحو، وعزيز ضياء.
وكما كان للمنهل قِصَّةٌ، وكان للشِّعر قِصَّة، فللقِصَّةِ عند الأنصاريِّ قِصَّةٌ أيضًا، تظهرُ تقديره أهميتها الأدبية، وإدراكه مقوماتها الفنية الرئيسة، في مِثلِ قوله: «وأدبُ القصَّةِ في حاجةِ ثقافةٍ عاليةٍ واتِّساعِ أُفق، وتغلغُلٍ في ألوانِ الحياة، وممارسةٍ لُعُقَدِهِ وحُلول هذه العُقَد، وتكوين أبطاله، واستنطاقهم، وحبك فكرةٍ شاملةٍ عن موضوعٍ حيٍّ، وتقديمها في ثوبٍ قشيبٍ مقبولٍ، لا هو بالغامضِ، ولا الرَّكيكِ المبتذل»، وحديثه هذا جزءٌ من مقالته، التي قدَّمَ فيها العدَدَ الخاصَّ بالقِصَّة في المنهل، عام 1374ه=1955م، الذي تضمَّنَ ما ينيف على (ثلاثين) نصًّا قصَصيًّا، لأدباءٍ في تلك المدة، منهم من هو معدودٌ في زمرة كُتَّاب القِصَّة، ومنهم من لم يكن كذلك. وقد صدَرَ العدَدُ بعد (عشرين) عامًا من تأسيس المجلة، ورسوخ قدَمِها، وشيوعِ اهتمامها بفنيِّ المقالة بأغراضها كافة، والشِّعر.
وفي ظنِّي أنَّ الأنصاريَّ لم يكن معنيًّا كثيرًا، بجودة تلك النصوص السَّرديةِ فنيًّا، بقدرِ ما كان مهتمًّا بتدشين عهد القصة تاريخيًّا في المشهد الأدبي، وإدخالها ساحة الأدب الوطني، وإشاعة الوعي بأهميتها في ذلك الوقت المبكر، واستدعاء العنايةِ بها؛ لحداثتها محليًّا في ذلك الحين، ولأنَّه رأى أنَّ كُتَّاب المقالةِ؛ قد «لامسوا أطرافَ فنِّ القصَّةِ في بعض المقالاتِ، التي استعارتْ من الأدبِ القصصيِّ بعضَ أدواته؛ كالسَّرد والحوار، وصياغة الخبرِ في قالبِ حكايةٍ بسيطة، وهي ليست قِصَصًا بالمعنى الاصطلاحي لهذه الكلمة، ولكن الباحثَ في نشأةِ القِصَّةِ في السعودية؛ قد لا يستغني عن الاطِّلاعِ على بعض نماذجها الأوَّلية»، بحسب الدكتور منصور الحازمي.
ويمكن أنْ يندرجَ في حُكمِ الحازمي وتوصيفه هذا؛ جُلُّ النصوصِ التي ضمَّنَها الأنصاريُّ ذلك العدد، ومن بينها النصوص التي كتبها الأنصاريُّ نفسه، الذي جاء اهتمامه بالقصِّةِ، وتخصيص عدَدٍ يضمُّ نماذج منها، ثمَّ تخصيصه بابًا ثابتًا لها في المنهل، بعنوان: (منهل القصص)؛ تاليًا لذلك العدد. وإلى ذلك رأى أحدُ الباحثين: أنَّ صنيعَ الأنصاريِّ هذا؛ «قضيةٌ تستحقُ البحثَ الأكاديميَّ الموسَّعَ والمعمَّق، وتتعلقُ بالدَّورِ الذي لعبته مجلة المنهل، بصددِ تنميةِ الوعي بفنِّ القصَّةِ، وإضفاء المزيد من الجاذبيةِ والمشروعيةِ له، وعليه».
وإلى محورٍ مهمٍ في مسيرة المنهل، يتمثَّلُ فيما أولتْهُ فنَّ الشِّعر، والشعراء السعوديين من اهتمام، والمُلاحظُ في الجدول الآنفِ؛ كثرةَ النصوصِ الشعرية ووفرتها، وهو ما يجلِّي زخمه التقليدي، والاعتداد به مكوِّنًا أصيلًا في الشخصية الأدبية، ولا سيما في تلك المدة، التي كان فيها الاهتمام بهذا الجنس الأدبي؛ أمرًا بدهيًّا مشهودًا وشائعًا، ولم يتوقَّف عند حدود نشر النصوص الشعرية في باب: (منهل الشعر)، لرئيسِ تحريرٍ كان الشعر أحد مكوناتِ شخصيته الأدبية، وهو اهتمامٌ ذو مغزى؛ بل جاء مرتبطًا بأحوالِ تلك الحقبةِ وأجوائها الثقافية، التي كان الشعرُ فيها العمودَ الرئيسَ للخطاب الثقافي والإبداعي، والتمثَّل الحيَّ للأدبِ، وحضوره الأثير في تلك المرحلة، وكان له قصَّةٌ كما أسلفنا، إذ خصَّصَ له الأنصاريُّ عددًا مستقلًّا، صدَرَ بعد عدَدِ القِصَّة، وقصَّ فيها قصَّتَه، وجعل لها أبطالًا، ومكانًا وزمنًا، وربط بين أحداثها كما تصوَّرَها، وطوَّفَ في بداياته ومراحله؛ تُطوافَ العَارفِ بتحولاته وأجياله، والخبيرِ بجيده ورديئه، وشديدُ الاعتدادِ به.
يقول في مقدِّمة (قِصَّةِ الشِّعْر): «للشِّعر عندنا قصَّةٌ أَحفلُ تاريخًا، وأَعمقُ جذورًا، وأَوسعُ ازدهارًا، وأقوى آثارًا من فنِّ القِصَّة، فلمَ لا نُصدرُ إذن عددًا خاصًا بالشِّعرِ، كما صنعنا حينما أصدرنا عددًا خاصًّا بالقِصَّة».
بيد أنَّ العملَ الذي قام به الأنصاريُّ في المنهل، وفاقَتْ أهميتُهُ العدَدَ الخاصِّ بالشِّعر، الذي لم تخلُ منه صُحُف تلك الحقبة، هو: (العدَدُ الخاصُّ عن أُدَباءِ المملكةِ العربيَّةِ السُّعودِيَّة) ، الذي صدَرَ عام 1386ه= 1966م، وهو أوَّلُ عملٍ ببلوغرافي خاصٍّ بالأدباء السعوديين، جمَعَ الأنصاريُّ فيه تراجم (مائة وخمسين) أديبًا، وأرفقَ بكُلِّ ترجمةٍ نصًّا شعريًّا لكلِّ شاعرٍ منهم، ومقالةً نثريةً لكلِّ أديبٍ من غير الشعراء، ووضع عنوانًا لكلِّ جنسٍ منهما، هو: (من أحْسَنِ ماكتبَ)، مختبرًا ذائقته في الاختيار، وكاشفًا إياها، ومُوفيًّا العددَ الغايةَ التي أرادها منه، في ذلك العمل الضخم، الذي عرَّفَ بأدباء تلك المُدَّة، وأظهرَ القُرَّاءَ على نماذج من إنتاجهم، ولم يكن قد صدَرَ في ذلك الحين، من الكُتُبِ التي تؤدي الغرض عينه، كما ذكَرَ، سوى (ستة) كُتب، هي: (أدبُ الحجاز)، لمحمد سرور الصبَّان، و(وحيُ الصَّحراء) لمحمد سعيد عبدالمقصود، وعبدالله بلخير، و(النَّهضةُ الأدبيَّةُ في نجد) لحسن الشنقيطي، و(شُعراءُ الحجازِ في العصرِ الحديث) لعبدالسَّلام طاهر السَّاسي، و(الأدبُ في الخليجِ العربي) لعبدالرحمن العُبيِّد، و(شُعراءُ نجدِ المعاصرون) لعبدالله بن إدريس، وبين أوَّلِ هذه الكُتُب، وآخرها في تاريخ الصدور: (خمسةٍ وعشرين) عامًا، وجميعها كانت من مراجع الأنصاري، في العدد الذي أشرنا إليه.
وهي في عُمومها كتُبٌ مؤسِّسِةٌ جليلةُ الأهميَّةِ، وسَديدةٌ في أغراضها التي أرادها مؤلِّفوها منها، وهي كما تشيرُ عناوينها، اتخذت منهجًا اقليميًا مناطقيًا، من حيث الشعراء والأدباء الذين عرَّفَتْ بهم، والموضوعات التي طرقتها، وذلك التزامٌ منهجيٌ بموضوع ِكُلٍّ منها ومحدِّدِه المكاني، وهو ما أراد الأنصاريُّ تجاوزَهُ في العدَدِ المهم، الذي أصدره عن أدباء المملكة كافةً، في ذلك الحين. وكما ذكَرَ في تقديمه ذلك العدَدِ، الذي تفنَّنَ في إخراجه، وتكلَّفَ في تبويبه؛ ليظهرَ بالمظهرِ المقبول، بقوله: «وكان الباعثُ على هذا التَّكلُّفُ بهذا المصرف الباهظ، هو إعداد الجزء الخاص هذا، ليكون مرجعًا مقبولًا لدى العالم الخارجي، وفي داخل بلادنا أيضًا، للجيل الحاضر، وللأجيال المُقبلة»، وقد تحقَّقَ ذلك، وأضحى ذلك العدَدُ من أهمِّ مراجع الدراسات الأكاديمية المؤسِّسِة، في أدبنا الوطني، يقول الدكتور عبدالله الحامد، في سياق تقييمه دور المنهل، في الاهتمام بالأدب والفكر في المملكة: «وقد أصدرتْ سنة 1386ه؛ عددًا نفيسًا ترجمَ للأدباء، وضمَّ مختاراتٍ من أدبهم، وهو-وحدَهُ- مرجعٌ مهمٌّ في تراجمِ رجال الشعر والأدب».
ولم يعدِم صنيع الأنصاريِّ في ذلك العدد المخصَّصِ لأدباء المملكة؛ الحسَّ الوطني، والوعي الثقافي معًا، فقد أراده جامعًا لأشتاتِ تراجمهم، وبعض آثارهم الأدبية، في الكُتُب التي أوردناها آنفًا، وغيرها، ومعرِّفًا بمن لم يسبق التعريف به، أو ترجمته من الأدباء؛ في عددٍ جامعٍ لأدباء المملكة، وليكون مرجعًا للباحثين والقُرَّاء، في التعرُّفِ على تراجمِ الأدبِاء في بلادنا كافةً، ومطالعة نماذج من إنتاجهم الشعري والنثري.
- يتبع