عبدالله العولقي
عادَ جابريلُ ماركيز من جامعته مكتئباً حزيناً، إذْ كيف يواجُه والده الضابط الصارم ويخبره بموضوع رسوبه في الكلية، وفي لحظةٍ حاسمةٍ قرّر ماركيز أنْ يتحلى بالشجاعة ويتخلى نهائياً عن دراسة الحقوق!، وأنْ يتفرغ لعشقه وموهبته في الكتابة، ولكنْ كيف يُقنعُ والده العصبي بذلك؟، استجمع الشاب الكولومبي قواه وذهب إلى والده في صالون المنزل وأخبره برغبته، كان أفرادُ الأسرة يترقبون المشهد عن كثب، وبالفعل وقع الذي كان يخشاه الجميع!، فقد استشاط والده غضباً عليه وأشعل أجواء البيت بالغضب والصراخ، لقد كان الأب يخشى على مستقبل ابنه، ويريد له مهنة تضمن له العيش بدلاً من الكتابة التي لا تسمن ولا تغني من جوع حسب وجهة نظره، لقد كان الأب يتضايق من مشهد الأقلام وكومة الأوراق وهي تتكدسُ حول مكتب ابنه ماركيز صباحاً ومساءً، فصاح به ذات يومٍ: هل ستعرف ماهي نهايتك؟،، حتماً سينتهي بك المطاف إلى أنْ تأكل هذه الأوراق!، وعندما حاولت الأم أنْ تدافع عن موقف ابنها، انفجر الأب صائحاً في وجه الجميع: إذاً صدّقتموه بأنه قصّاص، حسناً، لطالما كان كذاباً في طفولته!.
أمّا ماركيز فقد صعد إلى غرفته وظل قابعاً بها لا يَعْرفُ ليله من نهاره، منهمكاً في إنجاز قصصه ورواياته، لقد كان يريدُ أنْ يثبت لأبيه خطأ وجهة نظره، فظلّ يستلهمُ من ذاكرته حكايا من السرد الأسطوري الخرافي الشعبي، لقد كان الفتى الشاب يعتقد أنّ موهبته المتفجرة ستجعل دور النشر في بلاده كولومبيا تتهافت إلى منزله لتوقيع العقود معه، ولكنّ أحلامه الوردية تبخرت في أجواء السماء، بل إنّ أحد مديري تلك الدور نصحه بأنْ يبحث له عن مهنةٍ أخرى غير الكتابة!
لمْ يلتفتْ ماركيز إلى كلّ هذه الأصوات التي تدعوه للتوقف عن ممارسة شغفه وهوايته، بل استمرّ في مشروعه الثقافي متحدّياً كل الصعاب التي واجهته، وحينما أنهى رائعته (مائة عام من العزلة) لمْ تقبلها دور النشر المحلية في بلاده، فبدأ يخاطبُ دور النشر في الدول المجاورة، فقبلت بها دار نشر (سودا أمريكانا) في العاصمة الأرجنتينية بيونس آيرس، فذهب مع زوجته ميرثيديس إلى مكتب البريد حتى يرسلا المخطوطة، لقد كان الزوجان في حالة مالية يُرثى لها، فلمْ يتمكنا من دفع كامل أجرة البريد، فقرّرا أن يُرسلا نصف الرواية، كان ماركيز يتأملُ موظف البريد وهو ينتزع أوراق نصف الرواية من المخطوطة وكأنه ينتزع فؤاده من بين ظلوعه، وعندما عادتْ زوجته ميرثيديس الى البيت ظلت تتأمل زوجها وقد أرخى الحزنُ سدوله على وجهه الشاحب، فلمْ تتحملْ منظرَ الحسرة على رفيق دربها، فسارعتْ إلى أثاث بيتها لرهنه، فلمْ تتركْ لها حتى مُصفّف شعرها أو مكوى ملابسها!، لقدْ رهنتْ بالفعلِ كلّ أثاث المنزل، وحينها طار الزوجان مُسْرِعَين إلى البريد بالنصف الآخر لهذه الرواية، وعند عودتهما نظر ماركيز إلى زوجته نظرة المحبّ العاشق لهذه السيدة التي لمْ تتوان أبداً في مساعدته والوقوف إلى جانبه، لقدْ تأمّل أصالتها الإنسانية وهي تتدفقُ من جذورها العربية في أبهى صورة (حفيدة أحد المهاجرين المصريين الذين استقروا في كولومبيا)، لقدْ ظلّ ماركيز يتأملها وهي تكادُ ترقصُ فرحاً وسعادة بعد أنْ رأتْ رواية (مائة عام من العزلة) تذهبُ كاملة إلى دار النشر الأرجنتينية، وهنا توقف ماركيز عن السير وأمسك بيديّ زوجته وقدّم شكره وامتنانه لها، أمّا هي فقالت له بأنّ لديها إحساسًا حقيقيًا ينبع من أعماقها بأنّ الرواية ستنجحُ نجاحاً باهراً!
لقدْ تحققت نبوءة السيدة مرثيديس وحققتْ الروايةُ مبيعات أسطورية حول العالم لدرجة أنها تُرجمت لمعظم اللغات العالمية، وبعدها تبدّل حالُ جابريل ماركيز من الرجل البائس الفقير إلى أحد أثرياء أمريكا اللاتينية، لقدْ حازتْ الرواية على جائزة نوبل العالمية في الأدب عام 1982م، وأصبحتْ أيقونة الأدب التخيلي والأسطوري الرمزي كواحدة من أفضل الأعمال الروائية في العصر الحديث، فتسابقتْ دورُ النشر العالمية إلى توقيع عقودها التسويقية والتجارية مع ماركيز، حتى أنك تجدها في المكتبات العالمية باللغة الواحدة ولكنها بعدّة ترجمات مختلفة، وفي مكتباتنا العربية هناك عدة ترجمات لها لعلّ أشهرها وأكثرها ذيوعاً ترجمة الأستاذ الراحل صالح علماني رحمه الله تعالى.
لقد آثرت في هذا المقال أن أتحدث عن مفارقات الذاكرة مع هذا الأديب الكبير، فقد كان يخبئُ كل تلك التفاصيل الصغيرة والجميلة التي يلتقطها في حياته اليومية، ويخزنها في ذاكرته العميقة، وعندما يخلو نفسه بالكتابة كان يستدعي كل تلك المشاهد ببراعة الكاتب الحصيف، فقد كانت ذاكرته العميقة نعم المورد لإبداعاته وكتاباته، ولو بحثنا عن جذور موهبة الكتابة في سيرة جابريل ماركيز لوجدناها في طفولته الأولى، هناك في بلدة آراكاتاكا الفقيرة في كولومبيا، فهو الطفل الوحيد من بين إخوته الذي لمْ يعشْ مع والديه وإخوته، بل عاش سنوات حياته الأولى مع جدّه العقيد متقاعد نيكولاس ماركيز وجدته العجوز كوتيس، وهناك بدأ شغفه الأول بفنّ الكتابة وتعلقه الشديد بعالم الرواية، فكان جدّه نيكولاس راويةً حكّاءً من الدرجة الأولى، ففي كل مساءٍ وعندما يعمُّ الظلام أنحاء القرية كان الجدُّ يقصُّ على حفيده الأساطير الشعبية والحكايات القديمة، أمّا جدّته فكانت مفتونة بحكايات السحر والشعوذة، وهكذا نشأ الطفل الصغير في بيئة حكواتية بامتياز، لقدْ كان يحفظُ كلّ ذلك المخزون الشعبي في ذاكرته الحديدية ثم يستعيده أدباً وإبداعاً على لسانه وقلمه!، وعندما انتقل للعيش مع والديه وأسرته افتقد تلك الأجواء الحكائية، فقرّر أنْ يُعوّضها من خياله الواسع، فبدأ يقصُّ على إخوته أساطيره التي يختلقها من خياله ويحاول من خلالها أنْ يخلق أجواءً من الدهشة في نفوسهم، وهكذا استمرّت موهبةُ الكتابة الإبداعية تتنامى في شخصية جابريل ماركيز حتى وصلتْ ذروتها الفنية في (مائة عام من العزلة).
ففي هذه الرواية البديعة، يحكي ماركيز قصة قرية (ماكوندو) الصغيرة المنعزلة بتفاصيل في غاية الروعة، فعنْ طريق سرد حياة عدة أجيال متعاقبة خلال مائة عام، تنتقلُ فيها العائلة من حالة براءة الطفولة مروراً بكلّ مراحل الرجولة والأنوثة والانحطاط لتنتهي برياح عاصفة تدمر القرية بسبب خطيئة زواج غير مرغوبٍ فيه، لقدْ عالج ماركيز أحداث روايته بطريقة تهكميّة ساخرة، فمن خلال سرديته المتميزة يأخذنا ماركيز إلى واقع عجائبي مجنون، يمتاز بالسحر والغرابة والإبداع، فيرسم ملامح الواقع الشعبي البسيط لأدب أمريكا اللاتينية، ولهذا نجدُ أنّ ذيوعها الفعلي وانتشارها الأبرز كان بالدرجة الأولى بين شعوب أمريكا الجنوبية، وقدْ أعجبتني عبارة كتبها أحد النقاد اللاتينيين عن الرواية، فيقول: إنّ قرية ماكوندو هي كل مكانٍ ولا مكان، فهي عالمٍ من الكوابيس، وعلى الرغم من إحساسنا بسرابيّة ماكوندو، وأنها وهمٌ وخيال، فإننا نجدها ضاربةً في الواقع الاجتماعي والثقافي اللاتيني ومتجذرة فيه، فهي محفورةٌ في كلّ شخص، وكل شجرة، وكل بيت، وكل حبة تراب، حتى في الجوّ والهواء نجد صورة لها تنعكس على نحوٍ ما، إنّ ما يسترعي انتباهنا كقراء للرواية أنّ إنسان ماكوندو هو صورةٌ حية عن إنسان أمريكا الجنوبية كلها، في همومه وحيويته، في نجاحه وفشله، مآسيه وأفراحه، انهزامه وانتصاره، إيمانه وخرافاته، ضعف إرادته وتحديه للخطر!
اشتهر جابريل ماركيز بين أصدقائه ومعارفه وعائلته وحتى في الصحافة باسم (غابو)، يقول عنه الكاتب الكبير سمير عطا الله: كان غابرييل غارسيا ماركيز يرى أنّ الصحافة هي أفضلُ مهنةٍ في العالم،، وكان يُفضّل أن يُعرف بوصف صحافي وليس أنه حائزُ نوبل الآداب، أو مؤلف (مائة عام من العزلة)، وكلّما قرأ المرءُ هذا الخلاّب المدعو (غابو)، تأكّد له أنّه صحافي قضائي من الدرجة الثالثة، يستفيدُ كثيراً من ذاكرته المتوهجة، فيجمعُ مادته الروائية من مخافر الشرطة، وحكايات الأزقّة المعتمة، لكنْ ما إنْ يبدأ في كتابة السطر الأول، حتى يتحوّل إلى واحدٍ من عمالقة السرد الحكائي، فذاكرتُه الجبارة لا تتركْ أمامه شيئاً مُهْملاً أو مرميّاً إلا وينحني لالتقاطه، من قصاصات الصحف أو عناوين الجرائد، أو دفتر رماه أحد الركاب على قارعة الطريق، باختصارهذا هو جابريل ماركيز!
ومن عجائب سيرة ماركيز أنّ ذاكرته التي كانت معيناً له في سرده وكتاباته أُصيبت بالتلف، فتعرّض في آخر سنوات عمره للخرف (الزهايمر)، فأبعدته عائلته عن الإعلام والصحافة حتى أضحتْ حياته شبه سرية، يروي أحدُ أصدقائه المقربين أنه سُمح له بزيارته بعد معاناة شديدة مع السيدة مرثيديس، وحينما التقاه قال له ماركيز: أنا لا أعرفك، ولكني أعرفُ جيّداً أني أحبك!، فتأثر صديقه لهذه العبارة البليغة، لقدْ أيقن أنّ حافظة عقل صديقه قد تلاشت تماماً، لكنّ ذاكرة قلبه لا تزال تنبضُ بالحبّ والوفاء!.
وفي عام 2014م وهي السنة التي تُوفي فيها ماركيز تردّت الحالة الذهنية لماركيز كثيراً، ووصل به الحالُ إلى أنه كان يُمسك أحد الكتب ويستغرق في قراءته دون أنْ يدري أنه مؤلف الرواية!، وهذه من عجائب سيرة ماركيز وتناقضها، ولكنّها سنة الله في خلقه، فلكل شيءٍ نهاية، لقد كان الناسُ سابقاً يتعجبون من قوة ذاكرته وحضور ذهنه، أما ماركيز نفسه فكان يقول: من دون الذاكرة لا يمكنْ أنْ تُوجدُ رواية!، وفي حوارٍ صحفيٍ معه بعد حصوله على جائزة نوبل قال: على الكاتب أنْ يتذكرَ بقوةٍ كل ما سرد بدقةٍ شديدة، فهناك حالات سيئة من الكتّاب الذين فقدوا السيطرة على التحكم بفعل النسيان ممّا دفع بهم إلى ترك الكتابة، فبين الذاكرة والنسيان يكمن مفتاح الإبداع للتحكم بحبكة الرواية!.