د. عائشة بنت دالش العنزي
زخات المطر القاصدة حسيس نارهم سلبت من جوف الليل سكونه وأيقظت التوابيت على جمالهم العابرة، لم يكن الليل مقمرا ولم يكن الروض -كما تمنوه- أخضر، عكم البيت شُدّ حتى بلغ منتهاه، وأحاطت أروقته بكلّ ما فيه حتى فصلته عمّا يقع خارجه غير جزء صغير يتراءى عبره العالم أطيافا، لم يضق حجمه عن الجبل الجاثم بعيدا بعد أن غيبت هيمنته كلّ ما دونه؛ ضمت كفيها الصغيرتين حتى تسللت منهما رائحة الحناء وتبعت كلّ شيء رحل عن عالمها .. قذف صدرها الصغير ما ضاق به من أنفاس تلظت جمرا على كبدها.
تفهم ولا تفهم! تعي ولا تعي! كلُّ ما حولها استعار من الغربة كساءه وتدثّر بوجع الأرض، حتى التراب الذي شكلته طفولة ولعبا وأسقته براءتها وسنيها القليلة حتى ارتوى، واستقام بضحكاتها طينا وارتفع قصورا وامتدّ أسوارا اخترقت الغيم واعتلت كل واقعها.. كل الأشياء تنكّرت لها، لم يثمر احتفاؤها الطفولي، الذي بنى قيما وطمس أخرى؛ إذ أكرمت ببراءتها ما يداس بالأقدام وجعلت منه مادة للحياة -مرة أخرى-، ولعوالمها الصغيرة وشخوص حكاياتها التي تحاكي بهم وجوه أهل القطين وتعيد بأرواح جديدة يومياتهم، كان في أعماقها شيئا لا تفقهه ينضح بين الحين والحين ينداح كالبحر عند الهدوء والضجيج -مدا وجزرا- يفيض على ما حولها ومن حولها.. يسقي ظمأ لا يرده الماء، خيالها كان محدودا ككل شيء آنذاك؛ ولهذا لم تجد غير هؤلاء القوم ليكونوا مادةً لعوالمها الموازية ولِما ينضج داخلها من حكايات، كانت -أحيانا- تبدّل أسماءهم ثم تنظر لكل منهم باسمه الجديد وتسلّم روحها البيضاء لضحكات لا يرون لها سببا، لكنها تغضب البعض وتقلق البعض..،
فـ(نورة) الفتاة العشرينية تعطيها اسم (وضحى) التي تجاوزت عقدها التاسع وبدأت رحلة جديدة من حياتها ليس فيها غير الطواف بين البيوت تنسج ماضيها وتنقضه وتعيد على النساء النصائح ذاتها كل يوم، و(سويلم) المؤذن تمنحه اسم (جدعان التتان) الذي يتعوذ منه كل من في القطين ويمنعون أولادهم من مصاحبته، ليس هذا وحسب، بل تلحق بكل اسم ما يتبعه من معالم الهوية فـ(سويلم ) المؤذن يحمل بيده السيجارة ويتسكع بين المراعي يلاحق بناظريه من تمر من فتيات الحي و(جدعان التتان) يكتسي الوقار ترمقه العيون بإكبار، ولم تخرج الأغنام والإبل وصغارها من هذا المشهد فهي ضمن عالمها الواقعي محدود المكونات؛ ولهذا كانت تردّ للبهم أمهاتها النافقات وتصنع لها سياجا جميلا تزينه الخزامى، يبقى مفتوحا لا يغلق ولا تقف عند هذا، فالذئب يأتي ليلا جريحا هاربا فتدخله النعاج وتحيط به وتحميه من أعدائه الطالبين له وعالم الجن يحضر – أحيانا- في حكايات قمراء التي لا يسمعها غيرها أو من يتجسس عليها، عالم لا يستوعبه الكبار ولا حتى والديها؛ لهذا كانت الأم توبخها فهي تحرجها بين النساء، وكان والدها يدعو (سويلم )؛ ليرقيها، لكنه لم يعلم أنّها منحته صفات ووجه (جدعان)، إنّها تتخيله والتراب على وجهه الشاحب بعد أن تحثوه (فضة) ابنة عمه -التي ينتظر والدها استقامته؛ ليقبرها عنده – وهذا ما يجعلها تنفجر ضحكا عندما يبدأ بالقراءة، فيظنوا أن هذا أثر شيء روحي.
كانت أختها سلمى تأخذها من بين أيديهم، وهي تردد: «ما بها شيء هذي توها صغيّرة .. صغيرة»، وعندما تبعدها عنهم تهمس لها:
- «اعقلي يا خيتي، تعبنا كل يوم سويلم قالط عندنا وأنت ما بك إلا العافية بس تضحكين و تكلمين نفسك يديك ما ترتفع عن التراب وحتى حطبنا ما سلم منك يا خيتي لا تتعبينا، أخونا يروح مع زمله ومن يوم يرجع ما يذكر إلا أنت يسأل عنك قبل ما يرفع الماء لفمه، إذا تركت ها لطبع وعقلت أخذك (للسرحة) مع البنات وأخليك تطلعين الضلع وأعطيك (الدربيل) وتشوفين بيوتنا من بعيد حتى داخل البيوت « تبعت هذا الكلام بقهقهة مصطنعة قطعتها مسرعة لتسألها:» هاه يا قمراء (تجهمين) معي ؟» نهضت الصغيرة واتجهت إلى فراشها وعندما استقرت فيه قالت: «لا، ما أمشي معك خطوة وحدة تخبيرين يوم أطلبك أروح وتقولين لي طيب وأقوم بس مكانك يومني صرت استانس تبين تاخذيني»
- علميني وين الوناسة تلعبين بالتراب وتخربين الماء علينا كل يوم تاخذين من ماء القربة البارد؟ العيدان تجمعينها والبيت كله طين الله يرفع عنك ويرحم حالنا.
لم يثر كلام سلمى اهتمام أختها، شعرت عندها بقلة الحيلة، وبدأ فضاء وساوسها يتسع حتى اجتاز واقعها بسنين: «الله يستر بكره الناس يقولون بنتهم ممسوسة ولا أحد يخطبني من أبوي وينقطع نصيبي وحتى لوجاء أحد يكون ردي، ويمكن بعد يجيني وغد مثلها، داخله عليك يا ربي ! داخلة عليك! أبوي أجودي وأمي ما تضر الأرض الي تمشي عليها، وأخوي شهم كل يشهد له، وأنا ليا شفت المبتلى ما أشمت به، ارفع عنا يا رب!
هذا حلمي، أي والله هذا هو! الرماد الي كسا بيوتنا وغطّى الضلعان، رحمتك يا رب عسى ما هو مثل الجدري يصيب العقول ويعدي الناس « تقوم لتشرب الماء، وهي لازا لت تخضع لهذه الأفكار، تسمي الله وتشرب وتعود تنفض هذه الوساوس كما تنفض الرياح التراب عن أوراق الشجر «لا.. لا، للخلا الخالي والهشيم البالي».
القضية عند سلمى أخذت مدارا واسعا، فهي ابنة المكان وربيبة مفاهيم الزمان تعرف كيف سيتلقى البدو حال هذه الطفلة؛ إذن القضية مصيرية تشمل الأسرة كاملة، وقابلة لاتساع ضررها على العشيرة كلها، وقد يشمل الصحراء بمن فيها!! فقد يكون عشبهم ملوثا أوقد يكون داء عضالا أصاب أنعامهم يسبب للبشر السفه.
هكذا انساقت سلمى، وهي تعرف أن أروقة البيت لن تصمد أمام هذا السر القاتل الذي يقتحم حلم حياتها بزوج فارس كريم لا يسقط سيفه من يده ولا يصمت نجره، ولا يخلو مجلسه من الضيوف، هذه المصيبة -كما تراها- ستنسف هذا كله، وستبقى في بيت أهلها حتى تشيب ذوائبها، وبدأت تمضي مع ظنونها حتى وصلت بها إلى بيت خالٍ كئيب، وهي بقايا أنثى وحيدة تربط هذه السفيه بعد أن مات أبواها وتزوج أخوها وكبرت قمراء وأصبحت حملا ثقيلا روحا وجسدا رأت شقيقهما يخرجهما من بيتهم – المروبع- ويضعهما في بيت صغير خلف البيوت لا يزورهما غير ظل زوجته بين الحين والحين ترمي لهم الطعام، وهي تهمس:» يا رب تحمي عيالي من هالبلى» ثم تلتفت إلى سلمى وهي عائدة إلى دفء بيتها لترمي بسهامها - مظهرة الخوف- :» أكربي الرباط لا تنطلق علينا»
حاولت وهي أمام هذا المشهد أن ترفع بيدها التراب وتضعه في فمها ثم تبصقه كعادتهم في هذه المواقف، لكنها أحجمت ورأت أن هذا المآل لن ينفع معه هذا العلاج فهو يحتاج موقفا أقوى، حاولت الوقوف بعد أن أثقلتها هذه الأفكار والخوف على حظوظ النفس دون النظر لأي شيء آخر، تمسكت بـ (واسط البيت)، ثم التفتت للصغيرة، وهي غارقة في النوم تجمع قوتها لحكايا الغد لأحداث لم ترها لكنها تفترضها فالأفق المعاش ضيق، لا يتسع لفضاءات الطفلة؛ جبل وصحراء تمتدّ ما امتدّ النظر وبيوت متفرقة أهلها منشغلون بالعمل منذ الفجر حتى الليل، أوقات السمر قليلة ولعب الأطفال محدود، فهم يشاركون أهلهم العمل، ولا ينتظرون حتى يتعدى العاشرة، بل يدربون صغارهم مع صغار الأغنام؛ ليعرفوا مهاراتهم وقدرتهم على تحمل المسؤولية.
وتتفحص سلمى وجه أختها البريء وكفيها الصغيرتين الملطختين بالصدأ بعد أن أعانت أمها ووضعت لها (المركابة)، لتصنع العشاء الفاخر؛ أرزا أبيض صبّ عليه السمن، والإقط المذاب بالماء(المريسة)، عشاء ساهمت في إعداده ونامت قبل نضجه، نعم، نامت قبل نضجه!
قامت سلمى بهدوء وذهبت لأخيها لتوقظه؛ لكنها وجدته مستيقظا يحدّق في السماء وينظر إلى نجومها وكأنه يرى ما يتمناه أبعد منها، إنّه يجتر أفكارها بطريقته وبما يهمه؛ فـ(ظبية) عشق عمره التي سعى مع والديه بشتى الطرق لتكون له، لم يبق بينه وبينها إلا شهور قليلة ستكون مع هذا الحال أبعد ما تكون عنه.
-جبر ما نمت يا أخوي؟
- لا والله يا سلمى
- عسى ماشر؟
- نقول خير بإذن الله، حالة قمراء أتعبتني أروح وأجي وهي ما فارقتني.
- يا خوي أنا قلت لأمي ما شفنا من قراية سويلم نتيجة البنت حالتها تردى أمس تصارخ وتقول: أنا دخيلكم يا الربع الحنشل وراي، وبعدها ترد على نفسها: وصلت و صلت، والله مايجيك إلا إلي يجينا أرواحنا قبل روحك وتخبص بها لتراب والعيدان. ويوم سألتها عن الكلام قالت: «أحجي..أحجي ، تعالي، أسمعي حجايتي أحسن من حجايات أم عبيد الي تعيدها كل ماجتنا وإلا العجوز هيا ما نام من الخوف إذا حجت علينا وتخوفنا كل ما قالت:» أشم ريحة نسناس هو منّا وإلا من الناس» وإلا : واحجيتك وحجاك وأذيناتك ملويات بهن قرقعات قدور وبهن نعجة تخور» وش النفع من هالكلام ما يونس يا سلمى وكل يوم تعيده. بالله تعالي اسمعي حجايتي أحسن منهن عجلي ..عجلي يا سليمى لا تضيع مني ترى دايم تضيع وأنساها!»
والله يا جبر ما تلتفت للي حولها نروح ونجي ما تدري عنّا، كانت تعلّق بالماشي، وها لحين ما تنشد عن أحد. أنا أقول مالها إلا الله ثم أبو طراد يقولون علاجه مجرب وحدة بوحدة.
-أبو طراد !! لا..لا ، أنت تعرفين علاجه كوي وضرب هذا غير الذيب الي رابطه عنده، هذا ما هو حل يا سلمى أخاف تفقد عقلها، وأنت تعرفين المسافة بعيدة.
-و إذا خليناها على هالحال ما تفقد عقلها؟! يا أخوي أنا وأنت بنخسر من مرضها وأنت فاهم.
هكذا مضى ليلهم لا يسمعهم غير الخفافيش، وهي تقتات سواد الليل وتبصق ما اختلط به من ضوء القمر؛ حتى أنبلج الفجر عن أقسى قرار، استطاعت سلمى أن تحرك في نفس أخيها الخوف من القادم، الخوف من شبح قمراء وهو يحجب عنهم أمانيهم وفق قانون البدو الغريب في كثير من أنظمته.
جمع جبر كل ما يستطيع من حجج ليقنع والديه بحمل الصغيرة مع كل عوالمها التي نفثت فيها أنفاس الحياة وظللتها من شمس الصحراء الحارقة وكفَتْها بدفء خيالها البردَ القاتل، لم يصمد الوالدان أمام رأي ابنهما الوحيد، فجمعوا أمرهم بحملها إلى مقر أبي طراد مضوا من غرب حائل قاصدين شرقها قاطعين المسافات بحثا عن وهم الشفاء من وهم المرض، يحدوهم الجهل ويسوقهم مثل أنعامهم.
أمّا قمراء فكانت تجول بعينيها الجميلتين تعبر هذه الأماكن وتسأل كلما قطعوا واديا أو صعدوا مرتفعا ما اسم هذا المكان؟ ومن سكنه؟ كانت الأم تجيب بحب ممزوج بوجع، وهي تمسح رأس صغيرتها. حتى وصلوا مكانا فضحكت الأم والتفتت إلى الصغيرة:
- قميراء تدرين يا غناتي إن أمي -الله يرحمها- جابتني هنا ورا الضلع الأقصى.
- هنا.. هنا؟
- أي والله يابنيتي هنا، راحة تحطب وجابتني وارجعت وخلتني عند جارتها وجابت الحطب الي جمعته الله يجعل عظامها للجنة
- الله يرحمها جابت لي أزين أم
ثم تلتفت لأمها وتقبلها، عندها اختنقت الأم بعبرتها، وصارت تردد ما قالت طفلتها:
- أزين أم ! أزين أم ! ما جاك البلى إلا مني كانت عمتي مثلك يا قمراء وما طلع عرقها إلا بك لا أخواني ولا عيال عمامي جاهم مثلها غيري
أفاقت من أفكارها، وهي تستغفر وتتمتم بالدعاء بالشفاء العاجل.
لاحظت الصغيرة تغير أحوال أمها وانعكس حزن وجه الأم على وجه طفلتها الجميل، فأرادت بأمومتها أن تبدد ما حل بطفلتها من الهم، فنظرت مبتسمة:
- هذا المكان جيناه مرتين يابنيتي المرة الأولى بربيع تشوفين الأرض خضراء والخباري بكل مكان والحلال مربّع .. ما أنسى هاك السنة ربيعها مبروك وكنت كبرك أو أصغر شوي.
- وش اسم ها المكان يمه؟
- (ريع المغني) يا جنينتي!
- ريع المغني؟
بدأت تقفز أمام عيني قمراء عوالم مختلفة تصلح لحكاية جديدة المكان :ريع المغني، والحدث: ولادة طفل لأم تحطب، المؤكد في العالم الجديد أن الأم لن تضع المولود عند جارتها كما في الواقع لا دهشة في ذلك! بل ستضعه جانبا وتكمل عملها ويعدو الذئب في غفلة منها، ثم .... . ذهبت الصغيرة لعالمها الجديد تاركة أمها تلوك وهم الذنب الذي لم تبح به لأحد؛ حتى لا يتشاءموا منها.
في الطريق كانوا يمرون على كثير من الديار والبيوت يمكثون عندهم قليلا؛ ليتزودوا بالطعام والماء ثم يتابعون المسير إلى قبر ينتظر قربانا جديدا وروحا نقية لا ذنب لها غير الاختلاف الجميل والتفرد الأجمل، قبر تقطنه أرواح كثيرة وأدها الجهل وعادات السوء.
كان الأب وابنه يقطعون بعُدَ الطريق بهجينياتهم يتناوبونها لدفع الملل، تطمس الجبال صداها فلا يعود غير نحيب يشكو الظلم والقهر.
وصلوا قرب حائل -المدينة- والناس هناك يتداولون أخبار جيش قادم من الرياض، إنّه جيش ابن سعود يطوي الأرض إليهم، ووقع حوافر الخيول يسبق أصحابها، يحمل البشرى!
اقتربوا من بيت المعالج أبي طراد، ورأوا حول البيت خيام كثيرة لأناس قدموا من كل مكان للعلاج.
أنزلوا متاعهم وبنوا خيمتهم، وذهبت الأم مع صغيرتها يحتطبان
ويتحدثان معا، فقد كانت قمراء مختلفة عن أخويها كثيرة الحديث والأنس مع أمها مطيعة لوالديها محبة لهما، فقد كانت طفلا نفسيا أتى بعد خمسة عشر عاما من الصبر والدعاء والعلاج، كانا – كغيرهما آنذاك- يتمنيان ذكرا؛ ليكون سندا لوالديه وعضدا لأخيه وسيفا لقبيلته، لكنهما بعد ذلك تعلقا بها وأسعدتهما، حتى بعد أن أصيبت بعقلها- كما يخشون ويظنون-.
ونصبوا خيمتهم وذهب الأب إلى المعالج؛ ليخبره بالحالة ويشرح له أعراضها، وبعد الشرح هزّ أبو طراد رأسه وعرف علتها وأخبره بالعلاج على أن يحضرها في الصباح الباكر قبل أن تتناول أي شيء، قد يكون للرجل خبرة ببعض الأمراض، وسخّره الله لعلاج بعض الحالات بالكي والأعشاب وبعض أنواع الحمية، لكن هذا لا يعني المعرفة التامة، بل كانت هناك أخطاء جسيمة فقدَ أصحابها بسببها حواسهم والبعض مات.
أفاقت الأسرة على صوت المؤذن يجوب الفضاء ينادي لخير العبادات الثابتة مغيثا لهم وحصنا روحيا يمنع اليأس أن يسلب نفوسهم صبرها على قسوة الصحراء وحياتها وجهلها. أفاق أبو جبر وأيقظ ابنه للصلاة مع الرجال.
وقد أعدت الأم الطعام لصغيرتها (بنت الصاج) التي تحبها ممزوجة بالسمن، لكن الأب منعها أن تعطيها شيئا؛ بناء على وصية المعالج، عاد الأب من الصلاة، وأخذ الصغيرة وسبقه ابنه إلى أبي طراد، كانت أم جبر تتبع بعينها وقلبها خطى ابنتها، تعود إلى يوم مولدها يوم أنارت حضنها، ثم ترجع مسرعة إلى الساعة الحاضرة التي تختزن كل دقيقة منها خوفا ولهفة بحجم (أجا) و(سلمى) معًا.
غابت قمراء داخل البيت ولم يبق غير أثر أقدامها الذي يشبه كثيرا أثر أقدامها، كانت شديدة الشبه بها في: ابتسامتها وطريقة مشيها وشعرها الكثيف، حتى الصوت كأنه ينبعث من حنجرتها، إنها روح ثانية أنسلت من روحها.
لم يمض وقت طويل حتى خرج الأب وجبر معه يحمل أخيته وضحية أنانيته، كانت تئن فمنظر الذئب مخيف، ووجع الكي الذي امتلاء به رأسها مؤلم والحسرة الثالثة حلق شعرها!
أسرع الأب وأشار إلى ابنته وزوجته بالرحيل وترك الخيمة، فلا وقت عندهم لطيها، فالجيش على تخوم ابنة الجبال ليصعد بها من سفوحها إلى قممها- ليتهم كانوا يعلمون!-، حملوا صغيرتهم التي بدأت تفقد الوعي وبدأ جسدها الصغير يرتجف، وأخذت الحمى تحجب وميض عينيها وتصمت الصوت الذي ينبحث من أعماقها ينشر اللين في قسوة الصحراء صيفا وشتاء وغابت عوالمها وكل سكانها -ربيع.. مطر.. وحب.. ومغامرات تنتهي بانتصار الخير وسعادة أهله- كأنها كانت تنظر إلى صحرائنا بعد الجيش القادم الذي لم تعلم عنه شيئا ولم يشأ الله لها أن تستشرف له أي أمر، فقد كانت تلفظ أنفاسها الأخيرة، كان الكي قد أسلمها لموت محقق. نزلوا بها أهلها في المكان الذي شهد صرخة أمها معلنة وجودها في الحياة، ليحتضن صرخة أخرى تعلن رحيل صغيرتها. دفنوها في المكان ذاته وغادروا.
دفنت قمراء، فنبتت -بعد حين – أقمارا ملئت الصحراء وقمم الجبال وسواحل البحار.
** **
- أستاذ الأدب والنقد المشارك بجامعة الأميرة نورة