حامد أحمد الشريف
كنت قد وقعت مصادفة على رواية «ابنة الحظّ» للكاتبة التشيلية «إيزابيل الليندي» ووجدت نفسي أمضي سريعًا بتتبع الحكاية بافتتان رغم حجم الرواية الكبير؛ حيث تقع في أربعمائة وخمس وتسعين صفحة من القطع المتوسط، الصادرة عن دار الآداب ترجمة المترجم الفلسطيني المبدع صالح علماني يرحمه الله، ووقتها تأسفت بداخلي لصديقي الذي يظنني أعيش تفاصيل رواية «الحب في زمن الكوليرا» وكان قد نصحني بقراءتها ويتطلع لحديثي عنها، بينما الأسباب التي دعتني لتركها هي ذاتها التي شدتني كثيرًا لمتابعة قراءة «ابنة الحظّ» من أول سطر بعد عنوان الفصل «بالباريسو» وهي تهمس في أذني قائلة ص9: «الجميع يولدون مزوَّدين بموهبةٍ ما، وإلزا سوميرز اكتشفت منذ وقتٍ مبكِّر أنَّها تملك موهبتَيْن اثنتَيْن: حاسَّةَ شمِّ حادَّة وذاكرة قويَّة. وقد أفادتها الموهبة الأولى في كسب حياتها، والثانية في تذكُّرها، إن لم يكن بدقَّة، فعل الأقلّ بغموضِ عرَّاف شاعريّ.» انتهى كلامها.
هذه العبارات الجزلة استحوذت عليَّ، وزرعت الابتسامة على شفتيَّ، ووثقت علاقتي بالكتاب، وبالفعل لم يخذلني السرد لاحقًا بعد اكتشافي أنَّها شكلت الرواية كاملة من بدايتها حتى نهايتها كما سيأتي لاحقًا.
الآن دعونا نتوقف قليلًا عند القراءة الروائية الناقدة التي تعد مطلبًا مهمًا جدًا لكل روائي إن أراد الاستفادة الحقيقية من هذه القراءات للروايات العالمية المتفق على جودتها، ولم يتخذها تزجية للوقت كأي قارئ عادي، مع أنَّ هذا النوع من القراءة الفاحصة مهم للجميع، فالرواية الإبداعية كما هو معلوم كنز من المعارف والأفكار والفلسفات والمفردات والتراكيب اللغوية التي لا يحسن معها القراءة السريعة، وينبغي الاستعداد الجيد للقراءة، واختيار التوقيت المناسب، ومنح السردية الوقت والجهد الذي تستحقه حتى تعم الفائدة، مع ملاحظة أنَّ دخولنا لأي عمل روائي لأول مرة قد يكون بطيئًا بعض الشيء، وهذا يتفاوت من كاتب لآخر حسب المنهجية التي يتبعها، وكذلك حسب قدراته الحكائية والأدوات التي يمتلكها، فينبغي عدم الانزعاج من هذا البطء، ذلك أنَّ هذه المرحلة عادة ما تستخدم لتسليح القارئ بكثير من المعارف الضرورية التي تساعده على فهم وإدراك الحكاية والاندماج فيها لاحقًا وتجاوز صعوبتها المتوقعة، ولعل أسس القراءة الواعية التي تعلمناها تزيد من صعوبة هذه المرحلة، إذ إنَّ علينا القراءة بذهنية صافية خالية من أي شوائب تحد من رؤيتنا المتجردة للعمل، وأن نبتعد قدر الإمكان عن أي مؤثرات خارجية سلبية أو إيجابية، وهي المنهجية التي حضنا عليها الناقد والفيلسوف الفرنسي «رولان بارت» عندما بين لنا أننا بحاجة لتغييب قيمة المؤلف وعدم السماح له بالتأثير على نظرتنا للعمل وتقييمنا له، من باب العدالة القرائية، ما يعني بالتالي عدم متابعة آراء الآخرين والاسترشاد بها في تقرير قيمة العمل، وأنَّ دورهم يقتصر على التحفيز والترغيب في اقتناء الكتاب وتصفحه، وارشادنا للمفاتيح التي قد تمكننا من دخوله، وترك الحكم لنا بعد ذلك.
والأكيد أنَّ زوايا الرؤية تختلف من قارئ لآخر، وأنَّ قيمة العمل تعد مُركبًا كيميائيًا؛ عناصره الكاتب والقارئ، وبيئته التفاعلية القراءة الواعية.
في الواقع أردت قول ذلك من باب الإنصاف رغم الصورة المعاكسة التي وجدتها في هذه الرواية حيث إنَّ الدخول في الحكاية كان سريعًا جدًا على الأقل في إطارها العام، فلا تكاد تنتهي من الصفحات الست الأولى حتى تعرف أنك أمام عائلة مكونة من الأخ «جيرمي سوميرز» وأخيه القبطان البحري «جون سوميرز» الذي تأخر قليلًا دخوله في السرد وأختهما «روز سوميرز» وهم في مرحلة الشباب حيث الأخ جيرمي يبلغ الثلاثين عامًا تقريبًا بينما الأخت «روز» في العشرين، وصادف أن عثر الاثنان على لقيطة «إلزا» وقررا تبنيها رغم تفاوت رغبتهما في هذه الاستضافة، وهكذا يتنامى الصراع معنا من بداية وضع اللقيطة على بوابة الشركة وانضمامها لاحقًا للعائلة استجابة لرغبة الأخت، والشاهد هنا أنَّ هذه الحكاية التي تتدحرج أمامنا وتكبر ككرة الثلج، كانت من البساطة بمكان، ما يجعلك تظنها في البداية من تلك السرديات الواقعية البسيطة التي تعتمد السرد «الكرونولوجي» الخطي بتتابع الزمن المتشكل بداية من ولادة الطفلة حتى استلامها للحكاية وتصدرها للمشهد وتهميشها لبقية الأبطال الذين هيـَّــأوا لها مسرح الأحداث، ومع أنَّ السرد لا يخلو من تناوب وتقطع وعودة للخلف بتقنية «الفلاش باك» وتقدم للأمام بالإخبار المستقبلي إلا أنَّ كل ذلك بدا عرضيًا يتخلل السرد الرئيس المتنامي والمتناوب مع الزمن.
هذه البداية تعيدنا للرواية الكلاسيكية القديمة الأقرب لرصد الواقع وإعادة بثه ومزجه مع شيء من الخيال ولكنْ بحده الأدنى، والاشتغال على الأسلوبية الكتابية، بتطريز الكلام ببعض الفلسفات البسيطة والصور الشاعرية، والأفكار التجميلية، من دون التأثير على الخط العام للرواية التي تتنامى زمانيًا ومكانيًا بوتيرتها المعتادة، وتكون تدخلات المؤلف في حدها الأدنى.
كل ذلك كان سمة بارزة للعمل رغم صدور الرواية المتقدم في العام 1998م أي بعد ظهور أعمال كونديرا بعقد من الزمن وكأنها لم تتأثر بهذا الاتجاه الحديث في الكتابة الروائية، أو لنقل إنها التزمت بالنهج القديم الذي كنا نقرأه في روايات «فيكتور هيجو» و «تشارلز ديكنز» و «ليف تولستوي» و «فيدور دوستويفسكي»، وهو سرد ممتع وجميل لكنَّه في ذات التوقيت سهل وبسيط وواقعي.
وتأتي هذه الرواية في وقت ظهرت الكتابات التي تتحدى قدرة القارئ على فهمها المباشر، وتُدّخله في صراع مع النص واندماج من نوع مختلف يجعله مساهمًا بدرجة كبيرة في تلقي رسائله والتواصل مع معانيه، وهو الاتجاه الذي بدأ مع «البير كاموا» ونضج مع «كونديرا» وبقية الروائيين الحداثيين وغيب إلى حد ما مع «إيزابيل الليندي» لكنَّه في كل الأحوال يظل أحد أساليب السرد التي يفضلها كثير من القراء ولا يمكننا بحال اتخاذها ذريعة للتقليل من هذه الأعمال ويكفيها- أي الأعمال الكلاسيكية - أنها تأخذ بيدك سريعًا للدخول إلى الحكاية والغوص فيها حتى النخاع.
في كل الأحوال نجد أنَّ الحكاية بدأت بالتنامي وتقاطر عليها الأبطال ليشكلوا لنا الصراع الكبير بداية من حضور «جاكوب تود» القس الوهمي الذي ظهر وكأنه يبشر بالديانة المسيحية البروتستانتية عندما ركب البحر ومعه عدد كبير من نسخ الكتاب المقدس بغرض توزيعها وبيعها في تشيلي وفي ميناء بالباريسو تحديدًا، فوجد نفسه منغمسًا في هذه العائلة الانجليزية المهاجرة لتشيلي ووقع في غرام الأخت «روز» وأسهم مع بقية الشخوص في تهيئة مسرح الأحداث وكانت بطلة العمل الابنة «إلزا» وقتها لا تزال طفلة في بداية عقدها الثاني.
هناك نقطة محورية أخرى لا بد من التوقف عندها وترك الرواية قليلًا تتعلق بتلقي الأعمال الروائية، فهناك من يأسره روائي معين بأسلوبه السردي، فيصبح أسيرًا له، ينكب على كل أعماله ويشعر بالإشباع والارتواء الذي يريده، لكنَّه، على الجانب الآخر يقع في مطب تشكيل ذائقته القرائية، فتصبح الرواية بالنسبة له تماثل الأسلوب الذي استهواه وتلقاه عن الروائي الذي أصبح يطارد كتبه، وهذا خطأ جسيم، فهناك أساليب كثيرة للحكي الروائي، ولا بد من المرور على كل أو جل هذه الأساليب السردية المتنوعة، إن أردنا التعلم الحقيقي وحتى الاستمتاع بالقراءة، كي لا نعتقد خطأً أنَّ الرواية لا تكون إلا بهذه المواصفات التي استهوتنا، فنذهب للتقليل من الروايات التي لا تتشابه مع نوعية السرد الذي أحببناه، كمن يعتقد أنَّ الرواية بعد «ميلان كونديرا» لا بد أن تخلع رداءها القديم الذي ورثناه من الأديب الإسباني «ميغيل دي ثيربانتس سابيدرا» الذي أطلق فكرة الروايات الكلاسيكية من خلال رواية «دونكي شوت».
وقد سمعت أحد النقاد الاكاديميين المتخصصين يقول شيئًا كهذا ويقلل بصلف وعنجهية ممن لا يزالون يقرؤون الروايات الكلاسيكية الواقعية وينصح بالكُتّاب الحداثيين، متجاهلًا أنَّ الكلاسيكيات لا تزال موجودة ولها روادها ومحبوها.
ومع أنَّني أحاول الابتعاد عن هذا النوع من الكتابة التثقيفية التي تنحي العمل الإبداعي جانبًا وتخوض في تفاصيل نقدية قد لا يحتاجها القارئ العادي إلا أنَّني أشعر أنَّه مرتكز مهم في الدخول للحديث عن رواية «ابنة الحظّ» التي أراها من الروايات المهمة جدًا كونها تمثل نوعًا من الكتابة قد يهمله بعضهم ولا يمنحه القيمة التي يستحقها، نتيجة عدم فهمنا للفرق بين الروايات التي توصف بالحديثة، وتلك الروايات القديمة الموسومة بمصطلح «كلاسيكي» ما يجعل بعضهم ينفر منها خشية أن يوصم بالقدم أو كبر السن أو على الأقل يضطر لمسايرة موجة المفتونين بكتابة «كونديرا» الحديثة، التي تستحق بالتأكيد هذه الهالة لكنَّها لا تلغي بأي حال النوع الآخر من الأساليب السردية التي تشكل أساسًا لا يمكن القفز عليه، فكلاهما يحقق مبدأ السردية الحديثة بعد عهد المشافهة الحكائية البائد، ولكنْ بأسلوب مختلف. والسؤال الذي يُطرح هنا ما الفرق بين الروايات الفلسفية الواقعية التي يحمل لواءها كونديرا بامتياز وسبق أن تحدثت مطولًا عنه في مقالاتي السابقة، وبين الروايات الكلاسيكية الحديثة التي تمثلها هنا الكاتبة التشيلية «ايزاببل الليندي»؟!
إنَّ الفرق الأساس بين الاثنين هو في الحكاية التي يقوم عليها العمل، وأعني بذلك الحكاية الأم أو الحكاية الكبيرة أو الصراع المحوري المتنامي بكل تفرعاته، الذي يظهر في الروايات الفلسفية الواقعية ضامرًا كما فعل «البير كاموا» في روايته «الغريب» وقبله بالتأكيد «فرانز كافكا» في روايته «المسخ» التي تجمع بين الغرائبية والفلسفة، أو تطغى الفلسفة على الحكاي ة وتكاد تخفيها كما فعل «جستاين غاردر» في روايته الشهيرة «عالم صوفي»، أو تكون الحكاية متوسطة الطول لكنَّها ليست ذات أهمية كبيرة بسبب تجزئتها وتوزيعها على مساحة كبيرة وإغراقها في بحر هائج من الفلسفة والأفكار حتى لا تكاد تعثر عليها، أو على الأقل لا تهتم بها ولا تشعر أنها هي ما يستهويك داخل العمل السردي، وهو الأسلوب الذي برع فيه «كونديرا» ومن نحا نحوه في هذا الأسلوب الحديث للكتابة السردية وأظهر لنا هذه الحرب الشرسة بين أنصار هذا النوع من الروايات ومن لا يزالون مفتونين بالسرديات الكلاسيكية التي تطورت هي الأخرى ولم تعد مثل الروايات القديمة التي أرَّخت لهذا الفن، والشاهد هنا أنَّ هذا النوع من السرد الكلاسيكي يعتمد بالفعل على حكاية طويلة مليئة بالتفاصيل الصغيرة المرتبطة بالحكاية الأم، وتظهر الحكاية وكأنها تخلو من أي فلسفة وأفكار يعشقها بعضهم، بينما هذا الأمر غير صحيح فكلاهما يعتمد على الأفكار والفلسفات ويمزج بين الواقع والخيال بنسب معينة، ولكنْ، يختلفان في المنهجية والطريقة، فكونديرا يوظف المشاهد والوصف الحكائي لإيصال فلسفاته بطريقة أكثر وضوحًا ويجعلك تعتقد أنه يكتب المشاهد على هذا النحو لبث الأفكار التي يريدها، لذلك تأتي حكايته الأم شبيهة بلعبة الصور المقطعة التي تعطى لك مبعثرة ويطلب منك ترتيبها لإظهار الصورة الكبيرة وتبين ملامحها، بينما الليندي ومن حذا حذوها تعطيك الصورة مجمعة ومرتبة وجاهزة وتطلب منك استيعابها والتركيز في تفاصيلها الصغيرة التي يقينًا لا تخلو من أفكار وفلسفات، على أن تقوم باستخراج هذا العمق بنفسك من خلال التفكر في ما وراء المشهد، ولكنْ، من دون اشغالك بهذا الأمر أو اشتراطه إنّ كنت تبحث عن الحكايات المسلية فقط، وذلك ما أوقعنا في إشكالية المقارنة، إذ إنَّ انتظام الحكاية وتسلسلها المنطقي وإثارتها وتشويقها وتلبيتها لكثير من الاحتياجات القرائية قد تشغلك، وتجعلك تعتقد أنَّ الكاتب أبعد ما يكون عن الفلسفة ويختلف جذريًا عن الوايات الحديثة، بينما الصحيح أنَّ البعثرة التي تحدثتُ عنها، أو صغر حجم الحكاية مقارنة باتساع السرد كما كان يفعل البير كامو، جعلتك تهتم بالفلسفة لأنك مجبر على التشظي القرائي تماهيًا مع النص المبعثر أو غياب الحكاية الطويلة بينما تجد نفسك مندفعًا بكل طاقتك القرائية مع النص المتماسك المتسلسل الذي يمسك بتلابيبك ويجعلك تعتقد أنك لا تقرأ غير التفاصيل الصغيرة التي أغرقك فيها وهو يتجول بك في حكاية طويلة جدًا يصعب معها التوقف أمام المعاني والمقاصد والاتجاهات وقد انغمست كليًا في الحياة الواقعية التي أسرتك بتفاصيلها وتبحث عن نهايتها المدهشة، في وقت كنت ستتحصل على كثير من الأفكار والفلسفات إن كنت متلقيًا إيجابيًا، واستمتعت بالحكاية من دون تسطيحها، وأشركت وظائف عقلك العليا في التلقي الذكي، بمعنى أنَّ هذا النوع من السرد يعتمد أسلوبًا يشبه ما يسمى بكوميديا الموقف التي برع فيها الفنان البريطاني «مستر بن» وقبله الفنان الألماني «شارلي شابلن»، وقد استخدما الحكاية الفعلية المشاهدة لقول كل ما يريدون بصمت مطلق يشبه الأسلوب السردي الكلاسيكي الذي نضج كثيرًا مع «جابرييل جارسيا ماركيز» و»أيزابيل» ومن نحا نحوهما، فأصبحت الفلسفة والأفكار غير معلنة وغير مباشرة وقد تتلقاها بدون أن تشعر بذلك، فهي مضمرة داخل الصراعات والمواقف والشخصيات والحوارات، وقد لا ينوه عنها الكاتب مطلقًا، وهو أسلوب جميل أيضًا وله رواده ممن ليسوا من هواة تجميع الصور المبعثرة ويريدون النظر للصورة الكبيرة والاستمتاع بتفاصيلها بعد جمعها وترتيبها من قبل السارد وليس المتلقي.
إنَّ هذا الأسلوب السردي الجميل الذي يقدم لنا الكلاسيكيات الواقعية بصورة حديثة يتوسط فيها الوصف ويكون مختزلًا ومركزًا باتجاه مقاصد الحكاية وتفاصيلها المحورية، نجده في هذه الرواية التي كما أسلفت اعتمدت على حكاية طويلة جدًا تبدأ من الولادة لكل أبطال العمل وتغرقنا في تفاصيل حياتهم، كبطلتنا «إلزا» التي دخلنا لحكايتها من الفقرة الأولى في القسم الأول الذي عنونته بـ «بالباريسوا» وهو اسم المدينة الساحلية التشيلية التي شهدت ولادتها ونشأتها حتى وصولها لسن الشباب وانتقالها للعيش في ولاية كالفورنيا بأمريكا، وكانت البداية من خلال ولادتها التي أفردت لها مساحة ثمانية صفحات كاملة تحدثت فيها عن ملابسات هذه الولادة غير العادية، وبالتأكيد فإنَّ هذه المساحة لا تخلو من فلسفات عميقة وأفكار مضمخة داخل النص ـ كما أسلفت ـ لكنَّ جزءها الظاهر المشوق أشغلنا عنها، فالحكاية الأولى مهمة ومستحوذة ويمكن رؤية ذلك في قول الراوي العليم ص11: «لقد كان ميلاد إلزا موضوعًا محظورًا في ذلك البيت، فاعتادت الطفلة على الغموض والأسرار. ولم تكن تأتي على ذكر هذا الموضوع، مثل أمورٍ حسَّاسةٍ أخرى، أمام روز وجيرمي سوميرز، ولكنَّها كانت تناقشه همسًا في ا لمطبخ مع ماما فريسيا التي تصرّ على دقَّة وصفها لعلبة الصابون، بينما كانت رواية مسّ روز حول العثور على إلزا تتجمَّل مع مرور السنوات إلى أن تحوَّلت إلى حكاية حوريَّات.» انتهى كلامه.
وإذا ما أخذنا هذه الجزئية البسيطة من الحكاية المتسلسلة التي أحدثكم عنها، فيمكن اختبار ما نقوله عن الفرق بين فلسفة المواقف غير المباشرة مقارنة بالفلسفة القولية والفعلية المباشرة، فهذا الموقف الذي يصور لنا ببساطة تعامل الطفلة الصغيرة مع حكاية مولدها، وهي بالمناسبة حكاية شائقة أجادت الكاتبة في تدوينها، بطرحها كفرضيات غير أكيدة، وحمّلت كل فرضية لبطل من أبطال العمل ضمنهم «إلزا» نفسها التي اختارت بالطبع أن يكون حضورها في علبة مخملية كما تدعي والدتها بالتبني «روز» في قولها ص11: «فالسلة التي وُجدت فيها في المكتب، بحسب قولها، كانت مصنوعة من قشور خيزران طرية جدًّا ومبطَّنة بقماشٍ قطنيّ ناعم، وكان قميصها مطرزًا بغرزة النحلة، والملاءة مزينة بإطار من دانتلَّا بروكسل المخرَّمة، وكانت الوليدة مدثرَّة فوق ذلك بدثار من فرو الفيروز، وهذا شيء غريب لم يُعرف له مثيل في تشيلي» انتهى كلامها، أي أنها لم تكن علبة صابون، وهي الرواية التي تبنتها مربيتها «فريسا».
والفلسفة المضمرة في هذا النص الحكائي الجميل، وهو ما لم تصرح به الكاتبة بشكل مباشر وتركته لفطنة القارئ، إنَّنا دائمًا ما نبحث عن الصور التي تناسبنا ونخلق منها حكاياتنا الشخصية، أو لنقل بصورة أدق إنَّنا نصنع صور من نحبهم ونحفظها في عقلنا الباطن بما يناسبنا، حتى لو لم يكن ذلك هو الواقع الفعلي، فـ «فريسا» رغم محبتها لإلزا إلا أنَّها تصر على تشويه حكاية مولدها بما يتناقض مع تلك المحبة الموصوفة في ثنايا السرد، والسبب أنَّها من طبقة هندية فقيرة وتريد لها أن تكون من نفس طبقتها الاجتماعية حتى تكون محبتهما مبررة ودائمة وقوية، بدليل ايهامها لها أنَّها من أصول هندية مثلها في قولها ص10: «وكانت ماما فريسيا تدحض هذه الأقوال من وراء ظهر السيَّدة:
- أنتِ انجليزيَّة؟ دَعْك من هذه الأوهام أيَّتها الصَّغيرة، فشعرك شعر هنديَّة مثلي!» انتهى كلامها. ويظهر هنا أنَّنا أمام مرويتين متناقضتين ولابد أن تكون إحداهما مزيفة، ما يعني أنَّ الحقيقة مختلفة عن كليهما، وإنَّ كلا منهما يصنع المشهد الذي يناسبه، وحتى لا يعتقد أنَّنا نحمِّل النصَّ ما لا يحتمل، فيمكننا رؤية ذلك صراحة على لسان الآنسة «روز» التي أظهرت هذه الفلسفة للعلن وهي تبرر هذه الصورة التي تتبناها لولادة «إلزا» تقول ص10: «- أنتِ مثلنا، يسري في عروقك دمٌ انجليزيّ. فلا يمكن أن يخطر إلَّا لأحد أفراد الجالية البريطانيَّة أن يضعك في سلَّةٍ عند باب الشركة البريطانيَّة للاستيراد والتَّصدير.» انتهى كلامها.
وكما يظهر هنا أنَّ «روز» تصرح بتكييفها للبداية بما يتناسب معها، إذا وضعتها ضمن السلالة الانجليزية باعتبارات ظنية لا أساس لها، وكيَّفت المشاهد وفق هذه الرؤية، وستأتي التفاصيل لاحقًا لتبيّن لنا أنها أيّ «روز» مرت بتجربة عاطفية سيئة جعلتها تنفر من الزواج، لكنَّها تمنت أن تكون أمَّـًا، وأتت «إلزا» لتحقق لها هذه الأمنية، فكان أن هربت من وضعها كلقيطة ومن سلالة وضيعة، وأرادتها ابنة متبناة بالصورة التي تليق بها، قبل إطلاعنا لاحقًا على سر هذه الولادة التي تأخر كشفها ولن أتحدث عنها حفاظًا على تشويق وإثارة العمل، والشاهد هنا أنَّ الحكاية مغرقة في الفلسفة والأفكار، التي غيبتها دسامة المستوى القرائي الأول الذي يتضمن الحكاية الأم بكل تفصيلاتها، وهي الحكاية المقنعة والواقعية التي لا تترك لك فرصة للتفكير أو البحث عن المغازي بسبب تسلسل الأحداث ومفاجآتها وإثارتها وتشويقها وأسلوب سردها المتناوب الذي يذهب بك في كل الاتجاهات ويجعلك معنيًا بالدرجة الأول بالحكاية الطويلة،
وقد لا تنتبه لهذه الأفكار التي يحمَّل بها النص، وتنتقل إليك من دون أن تشعر بها ولقد وقعت في مطب هذا الأسلوب إذ إنني بلغت منتصف الرواية وأنا لم أدون حرفًا واحدًا، فهمي كله انصب على تتبع الحكاية الشائقة التي لا يزال هناك كثير مما يقال عن تفاصيلها الإبداعية التي أريدها وأبحث عنها.
ذلك ما قادني لمعاودة القراءة مرة أخرى محاولًا الوقوف على سر إيزابيل وأصحاب المنهج الكلاسيكي في الرواية، وهو السر الذي وشى به صديق إلزا الصيني «تاو تشين» عندما أطلعتنا السردية على حكايته من وقت ولادته في إحدى قرى الصين وقت أن كان لا يحمل اسمًا وإنما يوصف بالرابع، فكان أن عرفت حينها أن هذه الحكاية ليست سطحية، وإنما تحمل أبعادًا فلسفية لا تقل عن غيرها من الروايات العظيمة ولكنَّ عرضها يختلف كما يظهر في قولها ص195: «لم يكن هذا هو اسم تاو تشين» دائمًا.
والحقيقة أنَّه بقي من دون اسم حتى بلغ الحادية عشرة، فقد كان أبواه فقيرَيْن إلى حدّ لا يمكنهما معه الاهتمام بمثل هذه التفاصيل: ف كان يدعى ببساطة الابن الرَّابع.» انتهى كلامها.
هذه الجزئية الجميلة بينت لنا أن الرواية لا تخلو من أفكار عميقة علينا استخراجها بأنفسنا، أو تركها وستنتقل هي بطريقتها إلى عقلنا الباطن.
والفلسفة التي أرادت ايصالها الرواية بالعمق الجميل الذي أحدثكم عنه من خلال هذا الوصف الجزل؛ أنَّ الفقر متفاوت، فهناك فقر مدقع شديد تغيب معه أهمية التسمية، يقترن بثقافات مختلفة تخلق لنا حكايات لا يمكن تخيلها، وطالما لم تذكر كل ذلك صراحة فيبقى ضمن الأفكار المضمرة داخل النص وبالتالي فالنص قيم من هذه الزاوية وعميق جدًا طالما أن محتواه الفلسفي أكبر بكثير من جزئه الظاهر، وهكذا نجد أن الحكاية لا تخلو من عدد هائل من الأفكار التي نقرأها في ماورئيات النص كما يظهر في قوله ص216 و 217: «كان يحصي مرَّة بعد أخرى النقود التي في كيسه، وكأنَّ حساباته المجرَّدة لها ستمكَّنه من مضاعفتها، ولكنَّه كان يرى بجلاء أنَّ المبلغ لن يكفي للحصول على امرأة من تلك النوعية» انتهى كلامه.
وكما يظهر هنا أنَّ السرد الواقعي التفصيلي حمل مضامين فلسفية جميلة، فنحن بالفعل نقع في مَغبَّة مثل هذا السلوك عندما يتحول تفكيرنا المنطقي لسلوك غير منطقي وغير مبرر، وهو سلوك شائع يفسر لنا كثير من الاشكاليات التي ترقى احيانًا للوقوع في جرائم أو اقتراف سلوكيات سخيفة نتبرأ منها لاحقًا ونندم عليها، مع أنها ترتكز على تفكير منطقي وأساس مبرر لكنْ النتيجة ليست كذلك.
ولعلنا نقول من باب الإنصاف أن الفلسفة والأفكار الجميلة التي نبحث عنها في الروايات الإبداعية موجودة بالفعل حتى في صورتها الصريحة المباشرة وإن لم تكن هدفًا للسردية ـ فيما يبدو ـ كهذه العبارة الجميلة التي وردت في ص451 ويقول فيها: «وكان يقدَّر بأنَّه يتوجب عليه عدم الاقتراب منها ما دامت متعلَّقة بذكرى حبيبها القديم، ولكنَّه لا يستطيع في الوقت نفسه مواصلة التوازن على حبل متهدَّل لوقت غير محدود.» انتهى كلامه.
وكما نلاحظ هنا القدرة العالية على الاقناع بصيرورة الأحداث ومنطقيتها وواقعيتها وقيمتها على كافة الأصعدة، فهي ترمي لنا خيطا رومانسيا غاية في الجمال والإتقان والصبر والنضوج البطيء الذي ينبئ بمهارة فائقة للساردة مكنتها من هذا الإبداع الذي يحاكي بالفعل الواقع، وفي نفس الوقت ظهر لنا التشبيه مطابقًا للحدث ويحمل صورة شاعرية جمالية ومعنى عميقًا وفق معطيات يصعب اجتماعها، ويمكن من خلالها تحديد قيمة هذه السردية، فهذه العبارة تعد شاهدًا حيًا على كامل الرواية ذلك أن الرواية كتبت بنفس المنهجية من بدايتها وحتى نهايتها. كتلك العبارة الفلسفية الجميلة الأخرى التي أتت في سياق مبرر عند قولها ص453: «فقد كان فضوله إلى الحداثة كبيرًا إلى حدَّ توجَّب عليه معه أن يكتب على الجدار مبدأ معلَّمه المبجّل: ((لا فائدة كبيرة من المعارف من دون حكمة، ولا حكمة من دون روحانيَّة)).» انتهى كلامه.
والشاهد هنا أن الساردة لم تستهدف هذه الفلسفة بشكل مباشر بل أتت بها كما هو حال الرواية كاملة في سياق واقعي مبرر ومقنع وغير مفسر بحيث أن كثيرون قد يغفلون عنها نتيجة انشغالهم المبرر بالحكاية الكبيرة التي تستغرقهم تمامًا وتدفعهم للاعتقاد ألا شيء غيرها يستحق الاهتمام والتوقف.
ولعلي استميحكم عذرًا في التوقف هنا واستكمال حديثنا في الأسبوع القادم عن ذلك الحظّ الجيد الذي أوقعني في هذه الرواية المثرية الغنية بعدد لابأس به من تقنيات السرد وأسراره الإبداعية التي سنحاول الإطلاع عليها بتفصيل أكبر في الجزء الثاني.