جانبي فروقة
تتنوع وتتطور معايير السياسة الخارجية الأميركية مع كل دورة مصالح جديدة، حيث إنها تأخذ بعين الاعتبار الشبكة الأوسع من الأمن، الاقتصاد، التحالفات، التكنولوجيا، الجغرافيا، والمرونة البراغماتية ومن المعايير المهمة في عصر السياسة الخارجية لإدارة الرئيس ترامب هي مبدأ الأهمية الإستراتيجية (Relevance) ومبدأ توافق المصالح (Aligned Interests) وللتعامل مع السياسة الخارجية الأمريكية لا بد من تسليط الضوء على هذين المفهومين فمعيار الـRelevance يحدد «مدى التأثير الفاعل على مصالح واشنطن الحيوية». أي: هل هذا الطرف مهم لأميركا في الأمن، الطاقة، الجغرافيا، أو في المنافسة مع القوى الكبرى؟ ومن الأمثلة الحيَّة الشراكة الإستراتيجية مع دولة قطر فرغم صغر حجم الدولة الجغرافي إلا أنها تستضيف قاعدة العديد الجوية وهي أكبر قاعدة أميركية في الشرق الأوسط وتعتبر قطر لاعباً أساسياً في الغاز الطبيعي المسال (LNG)، وهو قطاع حيوي لأمن الطاقة العالمي ولها أيضاً دور سياسي فاعل في ملفات طالبان، غزة، والرهائن. وكذلك تركيا فرغم وجود خلافات بين أنقرة وواشنطن على عدة ملفات فإن أهمية تركيا تأتي من موقعها الجغرافي على حدود روسيا والشرق الأوسط والبحر المتوسط وهي عضو في الناتو، تتحكم بمضائق البوسفور والدردنيل (ممرات إستراتيجية لروسيا)، وكذلك مصر فهي تتحكم في قناة السويس (شريان رئيسي للتجارة العالمية) ولها أهمية كبيرة كلاعب محوري في استقرار غزة وليبيا والسودان لذلك فهي تحصل على مساعدات عسكرية أميركية ثابتة (1.3 مليار دولار سنوياً). وأما الفلبين فإن موقعها في بحر الصين الجنوبي يجعلها مركزياً في المواجهة مع بكين وإعادة تفعيل القواعد الأميركية هناك عام 2023 مثال واضح. لذلك نستنتج أن الـRelevance تفرض حقيقة أنه قد يكون الطرف مهمّاً جداً حتى لو كانت المصالح متعارضة (مثلاً: تركيا وروسيا مهمتان بحكم الموقع والقوة).
ويقيس معيار توافق المصالح (Aligned Interests) إلى أي حدد تتقاطع مصالح الطرف مع مصالح واشنطن العملية وليس القيم. وعلى سبيل المثال إسرائيل، فالمصالح متقاطعة في مكافحة إيران وتطوير التكنولوجيا العسكرية والتعاون الاستخباراتي لذلك تستمر واشنطن في دعمها مالياً وعسكرياً (4-5 مليارات دولار سنوياً) رغم التباينات حول ملفات عدة كالاستيطان أو غزة. وكذلك مع الهند تتقاطع المصالح في مواجهة صعود الصين وهناك تعاون في مجالات الدفاع والتكنولوجيا (صفقات طائرات مسيَّرة، أشباه الموصلات) ورغم أن الهند ليست حليفاً تقليدياً وليست عضواً في الناتو، لكنها شريك أساسي. والمثال الأكبر أوروبا (الاتحاد الأوروبي/ الناتو)، حيث إن المصالح الاقتصادية والأمنية متداخلة في مواجهة روسيا والحفاظ على النظام التجاري الغربي والتعاون الاستخباراتي ورغم وجود خلافات حول التجارة أو نفقات الدفاع، لكنها لا تُلغي التوافق في المصالح الكبرى. وهكذا نستنتج أن توافق المصالح Aligned Interests يقيس التقاطع العملي الذي يسمح بتعاون ملموس فكما أسلفنا الهند ليست مهمة بحكم الجغرافيا للولايات المتحدة لكنها أصبحت شريكاً بسبب التقاء المصالح في مواجهة الصين.
في الحديث الأخير للسفير توم براك مع هادلي غامبل أشار إلى أن الجميع يدافع عن شرعية لا عن حدود وهذا التصريح يلخِّص طبيعة الصراعات في الشرق الأوسط، حيث تبقى مسألة «من يملك الحق في التمثيل والرواية» أهم من مجرد ترسيم خط جغرافي، فالنقاش الدولي في القضية الفلسطينية لم يُحسم حول حدود 1967 أو القدس بقدر ما يتركَّز على الاعتراف بالتمثيل الفلسطيني والشرعية التاريخية والدينية. وفي قضية حزب الله في لبنان فإن سلوك إسرائيل العسكري يُكرِّس سردية «الشرعية الدفاعية» لدى الحزب، ما يجعل سلاحه مقبولاً في عيون قاعدته الشعبية والنتيجة إذا كانت الشرعية هي الميدان الحقيقي، فإن وقف إطلاق النار أو اتفاق حدودي لا يكفي لإنتاج سلام دائم. وعندما قال براك: «الجميع يسعى للهيمنة»، قصد أنَّ الهيمنة ليست بالضرورة احتلالاً مباشراً، بل قد تكون هيمنة اقتصادية أو ردعية. هنا يظهر البُعد الأميركي بوضوح: واشنطن تسعى دوماً إلى ضمان نفوذها عبر قواعد عسكرية، تحالفات أمنية، أو اتفاقيات تجارية، حتى من دون وجود عسكري مباشر.
إن منظور الولايات المتحدة الأمريكية للاقتصاد لا ينصب في أنها سوق فقط، بل أداة نفوذ لذلك هي تستعمل العقوبات الاقتصادية كوسيلة ضغط على إيران وروسيا وفنزويلا مثلاً وتحاول دائماً في مجال التكنولوجيا حماية التفوق الأمريكي في الذكاء الاصطناعي وسوق أشباه الموصلات والرقائق ومثال ذلك حظر تصدير الرقائق المتطورة إلى الصين وكذلك التجارة الحرة وقد أشعل الرئيس ترامب حربه التعرّفات مع كل العالم وخاصة الصين وأوروبا والهند.
ونتيجة ذلك نجد أن هناك معايير متعددة في صلب السياسة الخارجية الأمريكية تتبلور حول منظور الإدارة السياسية لمصالح واشنطن في العالم وهي التي تبلور مبدأ أنه لا يوجد اصطفاف دائم فواشنطن تبقى تحالفاتها مرنة وقابلة للمراجعة فكل شراكة تختبر باستمرار عبر عدسة المصالح ويتم تقييمها دورياً وهناك التقارب المشروط فأي ترتيبات مؤقتة تُبنى على الضرورة، مثل التعاون الأمني مع تركيا في الناتو رغم الخلافات العميقة.
وهذا يدعو صنَّاع القرار في العالم العربي للتعامل مع معايير السياسة الخارجية لأمريكا بالانخراط بذكاء في معادلة الشرعية والهيمنة والاستثمار في بناء الرواية السياسية والمؤسساتية المقنعة وأن يتم تقديم المصالح قبل القيم فكل ملف تفاوضي يجب ربطه بمصلحة متبادلة قابلة للقياس (أمن غذائي، موانئ، طاقة..) ويجب ضمان تنويع المسارات فإذا تعثر المسار السياسي يجب إبقاء مسارات اقتصادية وتقنية موازية لتقليل الخسائر ومن الأفضل دائماً الحديث عن شراكات قائمة على المصالح بدلاً من تحالفات مطلقة وتبني واقعية المصطلحات. يجب فهم أن لعبة النفوذ الأمريكي تتبدل مع كل دورة مصالح جديدة.