مشعل الحارثي
ما تحقق من نجاح كبير للدبلوماسية السعودية وجهدها العظيم الذي بذلته وبرعاية فرنسا في المؤتمر الدولي الرفيع المستوى للتسوية السلمية لقضية فلسطين وتنفيذ حل الدولتين الفلسطينية والإسرائيلية والذي كانت محصلته النهائية اعتراف نحو (150) دولة بقيام الدولة الفلسطينية وفي مقدمتها بريطانيا وكندا وأستراليا والبرتغال وغيرها، وكان إحدى ثمار الدور الذي احتضنته المملكة العربية السعودية منذ عقود من الزمن وجعلت من القضية الفلسطينية قضيتها الأولى منذ إعلان وعد بلفور المشؤوم وارتكاب أكبر جريمة إنسانية في التاريخ المعاصر بإعطاء الحق لمن لاحق له في إقامة دولته المزعومة (إسرائيل) على أرض فلسطين العربية لتتقاطر عقب هذا الإعلان أشتات اليهود من فجاج المعمورة لإقامة المستوطنات على ثراها المقدس وقيامها بتنظيم الأعمال الإرهابية والوحشية وترويع العرب وإفشاء الذعر بينهم لتعيش الأمة العربية طوال العقود الماضية حياة مريرة من الكفاح واستنزاف الطاقات البشرية والاقتصادية والحربية لمواجهة هذا العدو الغاشم الذي يهدد كيانها ومقدراتها المادية والروحية، وفي ظل حماية مطلقة من الدول الكبرى وفي مقدمتها الولايات المتحدة الأمريكية.
وأنا أتابع وعبر الشاشات الفضية مجريات هذا المؤتمر وتوالي اعترافات دول العالم بدولة فلسطين عادت بي الذاكرة إلى قبل أكثر من خمسة عقود وتحديداً يوم الأربعاء 16 رمضان 1394هـ 1974م، عندما وقف معالي السيد عمر السقاف وزير الدولة للشؤون الخارجية -رحمه الله- في أروقة الأمم المتحدة على رأس وفد بلاده لإلقاء كلمة المملكة خلال انعقاد الدورة الـ(29) للجمعية العامة، وكان مما قاله في هذه الكلمة: (منذ عام 1948 ومنطقتنا العربية تعيش في قلق واضطراب نتيجة خرق الميثاق وعدم احترام قرارات الأمم المتحدة ولقد تعرضت المنطقة أكثر من مرة لغزو عسكري صهيوني عنصري كانت نتيجته احتلال فلسطين العربية والتوسع لاحتلال أراضي دول عربية مجاورة خرقا لمبادئ القانون الدولي الذى يحرم الاحتلال والاستيلاء على الأراضي بالقوة ويعد تحديا صارخا للأمم المتحدة وقراراتها المتعددة - ولا أريد إلا أن استعرض مجددا تفاصيل القضية الفلسطينية وفى القلب منها قضـية القدس وحقوق الفلسطينيين الذي سلب الصهاينة أراضيهم وشردوهم من ديارهم وهم يعيشون على الأمل بالعودة التي إليها يسعون لممارسة حقوقهم في تقرير المصير ومنهم من وقع فريسة الاحتلال الإسرائيلي، ولكنني أريد أن أذكر بمدى الجهد الذي بذله العرب للسعي إلى الحلول السلمية والتجاوب مع مجهودات الدول الصديقة ذات النوايا الحسنة أملين الوصول إلى حل للقضية الفلسطينية ليقر بها السلام في منطقتنا القائم على أساس الحق والعدل وتقرير المصير).
وكان من نتيجة جهود معالي السيد عمر السقاف وبالتوجيهات السديدة من جلالة الملك فيصل -رحمه الله- ودعم عدد من الدول العربية أن تمكن السيد ياسر عرفات القائد العام للثورة الفلسطينية وبصفته رئيس اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية، من إلقاء كلمة فلسطين أمام المنظمة الدولية لشرح القضية الفلسطينية وحقوق الشعب الفلسطيني في أرضه ووطنه ولأول مرة وهو يحمل في يده غصن الزيتون، رغم الحملة السياسية والإعلامية التي شنتها (إسرائيل) آنذاك بدعم وإسناد مجموعة الدول المعادية لحقوق الشعب الفلسطيني وفي مقدمتها الولايات المتحدة الأمريكية، ورغم التهديدات المباشرة التي أطلقتها أمريكا ضد الأمم المتحدة ومؤسساتها المختلفة، وقولها بأن (الاعتراف بمنظمة التحرير الفلسطينية هو إعلان الحرب على دولة إسرائيل. والذي يؤيد دعوة ياسر عرفات إلى الأمم المتحدة، يؤيد تخليد الحرب في الشرق الأوسط)، ورغم كل ذلك فقد صوتت (89) دولة من الدول الأعضاء في الجمعية العامة للأمم المتحدة من مجموع (138) دولة تمثل الجمعية العامة لصالح قرار ينص بحق الشعب الفلسطيني في العودة إلى وطنه وحقه في تقرير المصير وإقامة دولته الوطنية المستقلة بقيادة منظمة التحرير الفلسطينية بصفتها الممثلة الشرعية والوحيدة للشعب العربي الفلسطيني. مما شكل هذا التصويت في حينه ضربة قاصمة للمخططات اليهودية الصهيونية التي حاولت جاهدة منذ عام 1947م تصفية الشعب الفلسطيني وتجريده من حقوقه الوطنية وسلب أرضه بعد سلب إرادته من خلال فرض مشاريع الاحتواء والوصاية والهيمنة ومناصبته العداء للعرب والمسلمين، وسعيها الدائم لخلط أوراق الشرق الأوسط وانتهاج أساليب المخاتلة والمماطلة وتزوير وقلب الحقائق ورفض كل مشاريع ودعوات وجهود السلام.
وأما اليوم فقد اعترف بالدولة الفلسطينية 157 دولة، ومواكبة لهذا التحول الكبير في مواقف دول العالم وهذه الانتفاضة السياسية والدبلوماسية المهمة فإنه على الساحة الفلسطينية أن تعيد جمع شتات أوراقها وتوحد صفوفها وأحزابها وفصائلها بما فيهم حماس، وعدم إضاعة هذه الفرصة والمكاسب التي قد لا تتكرر مرة أخرى لكي تأخذ الدولة الفلسطينية موقعها الرسمي بين دول العالم كدولة مستقلة لها كيانها ووجودها واسمها في المحافل الدولية، وعدم منح العدو الغاشم الذريعة للاستمرار في عنجهيته المارقة المستبدة، ويبقى على المجتمع الدولي وكما أقدم وبكل جراءة وقناعة على خطوته الأولى في الاعتراف بدولة فلسطين أن يضع النقاط على الحروف فيما بعد هذه الخطوة والمسارعة إلى وقف نزيف الدماء لأهل غزة وانتشالهم من وقع الهجمات الإسرائيلية البربرية والغارات الجوية والاجتياحات البرية والمعالجة الفورية لأوضاعهم الإنسانية المزرية.
كما يبقى أخيراً أن تستيقظ الضمائر وتعي البصائر العربية والإسلامية كل ما يحاك ضدها وخلف الجدران المظلمة وتعمل على مرحلة جديدة من التضامن وجمع الكلمة والصمود على مواقفهم وبإذن الله هم المنصورون وأعداؤهم مدحورون خائبون وستعود أشتات اليهود من حيث أتوا.