صالح الشادي
في زمن يطغى عليه ضجيج الحياة المعاصرة، وتتكاثف فيه غيوم القلق والتلوث والغذاء المعالَج، نجد أنفسنا أمام مفارقة صارخة: كلما تقدم الطب وتعددت الأدوية، كلما ازدادت قائمة الأمراض وتعقدت.
لقد أصبحنا نعاني من «وباء» الأمراض المزمنة: أمراض القلق التي تنخر في هدوء النفوس، وأمراض سوء التغذية التي تسمم الأجساد، وأمراض التلوث التي تخنق الأنفاس، ناهيك عن أمراض الشيخوخة التي صارت هاجسًا في عالم يبحث عن الخلود.
لطالما كانت تجربة المرض جزءًا من رحلة الإنسان على هذه الأرض. فالحضارات العظيمة - من الصين إلى الهند، ومن اليونان إلى مصر القديمة، وصولاً إلى العرب - أدركت هذه الحقيقة وواجهتها بحكمة بالغة. لقد نظروا إلى الطبيعة من حولهم لا كمصدر للغذاء فحسب، بل كمختبر شاسع للشفاء. فاستخرجوا الدواء من أعماق الأرض، من لحاء الأشجار، من خصائص الحجارة، ومن أسرار المحيطات والحيوانات، كان الطب فنًا يمتزج فيه العلم بالروحانيات، والعلاج بالوقاية.
لكن المنعطف الخطير في مسيرة الطب البشري جاء عندما تحول من «فن للشفاء» إلى «صناعة مربحة». لقد استحوذت شركات الدواء العملاقة على زمام المبادئ، وربطت المعاهد الطبية بمصالحها، وجعلت كبار العلماء والباحثين أدوات تحت مظلتها. فأصبح الدواء سلعة تُسوَّق قبل أن تكون وسيلة للعلاج. وانتشرت على إثر ذلك أدوية الكوليسترول والضغط والسكر الخ ، وأصبحت أدوية الصداع والآلام والالتهابات جزءًا من روتين الحياة اليومي، إلى جانب الأدوية باهظة الثمن لأمراض مستعصية مثل السرطان وغيره.
في خضم هذه العاصفة، برزت منصات التواصل الاجتماعي لتقدم «وصفات سحرية» من كل حدب وصوب.
انطلق آلاف العامة يقدمون اجتهاداتهم حول كيف تقضي على السكر، وكيف تتغلب على السمنة، وكيف تهدئ من روعك لتنام مبكرًا! وامتد الحديث إلى تقنيات أكثر تعقيدًا كالعلاج بالخلايا الجذعية والذكاء الاصطناعي، مما خلق فوضى معرفية حقيقية.
وسط هذا الضجيج، وقع المستهلك في حيرة لا مثيل لها. حيرة بين تناقض آراء الأطباء أنفسهم في التشخيص وطرق العلاج، وبين حملات التسويق المدروسة لشركات الأغذية التي تستأجر العلماء وتوظف الإعلانات لتلميع منتجاتها. وانقطعت الصلة بين الإنسان وحكمة الأسلاف، وتاه عن الإصغاء إلى ذلك الصوت العميق الذي يردده الفلاسفة وعلماء النفس منذ آلاف السنين: أن مفاتيح الصحة الحقيقية ليست في قارورة دواء، بل في راحة البال.
هنا تكمن الكنوز المفقودة: راحة الخاطر، والبعد عن القلق والغضب، وعدم الانجرار وراء دوامة التنافس المادي غير المجدي. إنها فلسفة الرضا بقضاء الله وقدره، وتقبل الأحداث كما هي، والتعلق بالأمل لا باليأس.
في صلب هذه الفلسفة، يبرز «فن التغافل» ليس كضعف أو استسلام، بل كقوة جبارة وحكمة بالغة. فالتغافل عن الإساءات، والتغافل عن الهفوات، والتغافل عن بعض التفاصيل التي تزيد الحياة تعقيدًا، هو سر من أسرار العافية وطول العمر. إنه لا يحافظ على صحة القلب والجسد فحسب، بل يطهر الروح ويجعلها في حالة من السكينة والاتزان.
تاريخنا الإسلامي يحكي لنا قصة معبرة تجسد هذا المعنى. حيث يروى أنه في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم، بشّر عليه الصلاة والسلام بأن رجلاً من أهل الجنة سيدخل عليهم. ودخل الرجل، فتعجب الصحابة وتمنى كل منهم أن يكون هو. وتقصى عبدالله بن عمر أمر الرجل وسأله: ماذا عملت حتى سمعت رسول الله يقول ما قال؟ فأجابه الرجل بعد أن تفكر: «ما أعلم أني عملت شيئاً إلا أني لا أحمل في قلبي غِلّاً أو حقداً على أحد من المسلمين».
هذه هي العظة. هذه هي الوصفة التي لا تكلف قرشًا، لكنها أثمن من كل أدوية الأرض. أن تخلو قلبك من الغل. أن تتغافل. أن تسامح. أن ترضى.
عموما ، قد نكون بحاجة إلى أن نعيد تعريف «الصحة» بعيدًا عن غرف الطوارئ والمختبرات. الصحة هي توازن بين الجسد والروح. وهي رحلة نعيد فيها اكتشاف حكمة القدماء، حيث كان العلاج يبدأ من الداخل، من سلام النفس، قبل أن يبحث عن الخارج في رفوف الصيدليات. فربما كان المثل القديم محقًا حين قال: «تسعة أعشار العافية في التغافل».