د.عبدالله بن موسى الطاير
أنتم وأنا نعرف ومنذ زمن طويل أن العلاقة بين أمريكا وإسرائيل غير منطقية، ومكلفة للغاية، ومضرة بمصالح أمريكا، وأن إسرائيل دولة صغيرة ذات أهمية جيوسياسية محدودة لأمريكا مقارنة بالقوى العالمية الأخرى، وبحلفاء أمريكا في الشرق الأوسط مثل دول الخليج وتركيا ومصر، ولكن الأمريكيين لا يعلمون.
السياسيون والإعلام التقليدي في أمريكا سمح باستمرار التعمية والحيلولة دون نشوء علاقة أكثر صحة وشفافية تعطي الأولوية للمصالح الوطنية الأمريكية، وأسسوا لذلك ذرائع سياسية وأمنية ودينية؛ ومن ذلك أن التخلي عن إسرائيل سيؤدي إلى تخلي الرب عن أمريكا، وأن أمريكا بحاجة إلى إسرائيل أكثر ما الأخيرة بحاجة إليها، وأنها الديموقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط، وأن دعمها وتقديم مصالحها على مصالح أمريكا يتقرب به الإنجيليون الأمريكيون إلى ربهم، وأن إسرائيل الحليف الأهم في محاربة الإرهاب، وكنا نعلم علم اليقين زيف تلك الدعاوى، ولكن الأمريكيين يجهلون ذلك.
كنا نعرف عن هجوم إسرائيل على السفينة الأمريكية يو إس إس ليبرتي عام1967م في البحر الأبيض المتوسط، وقضية التجسس التي تورط فيها جوناثان بولارد عام1980م، ومشاركة إسرائيل أسرار أمريكا العسكرية مع الاتحاد السوفيتي، ونقل التكنولوجيا العسكرية الأمريكية إلى الصين، ولكن عامة الأمريكيين لا يعرفون.
وكنا على يقين أن حرب الإبادة الإسرائيلية على قطاع غزة، والتجويع والتهجير والتطهير العرقي تضر بالقيادة العالمية لأمريكا، وتعزلها إلى جانب دولة مارقة، وسط غضب رسمي شعبي عالمي، ولكن الأمريكيين لا يعلمون.
أستطيع القول إن عملية تحرير العقل الأمريكي قد بدأت، وبقوة، عبر شبكات التواصل الاجتماعي، يقودها مشاهير، وبخاصة من الشباب الأمريكي المحافظ، وأن إجماع المحافظين الأمريكيين، الذي كان راسخًا في السابق، على الدعم الثابت لإسرائيل بدأ يتصدع. الزعم بأن إسرائيل حليف رئيسي في الشرق الأوسط، وحصن منيع ضد الإرهاب، وإرث يهودي مسيحي مشترك تبددها شخصيات بارزة وناخبون شبابًا، ويدفعون برواية جديدة، مفادها: أن العلاقة مع إسرائيل أصبحت «مهينة» لأمريكا. يضع الخطاب المستجد أمريكا أولًا، منتقدا التشابكات الخارجية اللامتناهية، ومستنكرا دور رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو وادعائه التلاعب بصنع القرار الأمريكي.
كان تاكر كارلسون، المعلق المحافظ البارز، في طليعة هذه الحركة؛ فهو يتهم نتنياهو بالتدخل في السياسة الأمريكية. ووصف كارلسون أكثر من مرة نفوذ إسرائيل بأنه «مهين» للأمريكيين، وانتقد ولاء السياسيين الأمريكيين لدولة أجنبيةٍ صغيرة وقصية ومارقة أكثر من ولائهم لأمريكا. كما نبش كارلسون في ملفات محرمة، وتحدى تابوهات راسخة؛ منها معرفة إسرائيل بأحداث 11 سبتمبر 2001م قبل حدوثها، ومعاملة إسرائيل للمسيحيين في الأرض المقدسة، بما في ذلك مصادرة الأراضي وتهجير المسيحيين، متسائلا عن سبب تجاهل القادة الإنجيليين مثل تيد كروز لهذه القضية.
النائبة الجمهورية المحافظة مارجوري تايلور غرين، تندد بولاء السياسيين الأمريكيين الواضح لإسرائيل على حساب أمريكا. وعلى الرغم من أنها مؤيدة بشدة للرئيس فإنها أصبحت أول عضو جمهوري في الكونغرس الأمريكي تصف أفعال إسرائيل في غزة بـ«الإبادة الجماعية»، لتثير غضب جماعات الضغط الإسرائيلية مثل لجنة الشؤون العامة الأمريكية الإسرائيلية (AIPAC). طالبت غرين بشطب مليارات الدولارات من المساعدات الدفاعية لإسرائيل، وتعتبر أن تقديم أمريكا نحو 30 مليار دولار منذ أكتوبر 2023 لإسرائيل، وإجمالي دعم تخطى 300 مليار لإسرائيل على المدى الطويل لا يستقيم مع ديون أمريكا البالغة أكثر من 37 تريليون دولار. وتتهم غرين (إيباك) بالسيطرة على الكونغرس، وتصف ذلك بالتدخل الأجنبي في الشؤون الأمريكية، واصفةً اعتبار «إسرائيل أولاً» خيانة وطنية.
أما الأكاديمي الأمريكي جيفري ساكس، فيعطي للنقاش المتنامي ضد إسرائيل ثقلًا فكريًا، ويصف إسرائيل بـ»الدولة المارقة» التي ترتكب إبادة جماعية في غزة بتواطؤ أمريكي، ويحث الأمم المتحدة على فرض حل الدولتين، محذرا، وهو يهودي، من أن تطرف نتنياهو يهدد بقاء إسرائيل ومصالح الولايات المتحدة، ويدعو إلى إنهاء المساعدات غير المشروطة. بل يذهب إلى أبعد من ذلك ويعتبر تأسيس دولة إسرائيل خطة سياسية مسيحية بريطانية لا علاقة لها باليهود، الذين لم يؤمروا بتأسيس دولة لهم وإنما بالعيش في أي مكان يرتاحون فيه، معتبرا أن وجود دولة لليهود يشكك في انتماء اليهود لدولهم التي يحملون جنسياتها ويعيشون فيها.
تُظهر استطلاعات الرأي تحولا سلبيا تجاه إسرائيل بين الجمهوريين دون سن الخمسين، حيث قفزت من 35 % إلى 50 % في السنوات الأخيرة. وفي استطلاع لصحيفة نيويورك تايمز عارض 35 % من الأمريكيين بشدة تقديم الدعم الاقتصادي والعسكري لإسرائيل، كما عارضه الى حد ما 16 %، وهذا من أكبر التحولات التي تنشرها وسيلة أمريكية تقليدية.
يُهدد هذا التحول بعزل إسرائيل، ووضعها في الإطار المناسب لأهميتها لمصالح أمريكا، ويبشر باستعادةً السيادة الأمريكية لقرارها. وعلى الرغم من أن البعض يجادل بأن حالة الوعي المتدفقة لا تعدو كونها ثورة غضب مزمّنة، وسرعان ما تستعيد إسرائيل سيطرتها على العقل الأمريكي، إلا أن هناك من ينظر إلى هذا التحول على أنه حقيقي ومستدام، ويشبهونه بالبذور التي تنثر في التراب، إذا لم تثمر اليوم تثمر غدا لكنها لا تموت، بل تنتظر الظروف المناسبة لتنبت مرة أخرى.