د. محمد الرويلي
منذ عقدين والعالم يردّد شعاراً جديداً: التمارين هي الدواء (Exercise is Medicine). إذ لم تعد التمارين مجرّد رفاهية، بل صارت هي الدواء الأكثر أمانًا، والوصفة الأرخص ثمنًا، والسرّ الأعظم في مقاومة أمراض العصر. فقد أثبت العلم أن النشاط الرياضي يخفض ضغط الدم، ويكسر شوكة السكري، ويخفف آلام المفاصل والعضلات، بل ويعزز الراحة النفسية.
في ضوء هذا التحوّل، بدت النوادي الرياضية مرشّحة لأن تكون منارات للصحة، لا مجرد قاعات حديد وعرق. بدت كأنها بوابات للوقاية، وجسورًا للعافية، وحصونًا ضد أمراض العصر. ومن هنا تسلّل السؤال: لِمَ لا تتحوّل هذه القلاع الحديدية إلى عيادات حية؟ لِمَ لا يُضاف للعلاج الطبيعي مقعد بين الأثقال، وركن بين أجهزة الركض، ليكون الجرح والشفاء في مكان واحد؟
الفكرة، في ظاهرها، دائرة ذهبية: المريض ينهض من إصابته في العيادة، ثم يعود إلى جهازه الرياضي وكأن شيئًا لم يكن. النادي يمدّ العيادة بالمصابين، والعيادة تعيدهم للنادي أقوى وأكثر إخلاصًا. كأنها دورة مكتملة: وقاية، علاج، ثم ولاء متجدد.
لكن ما بدا في الخيال كدائرة متكاملة، يتكشّف في الواقع كخطّ أعوج. الحقيقة أن الكفة تميل لصالح النادي: يكتسب سمعة ووجاهة صحية، بينما تظل العيادة واقفة على الهامش، تنتظر من لا يأتي.
منطقيًا، يمكن لأخصائي العلاج الطبيعي أن يقف على بوابة النادي، يفتّش الأجساد، ويفحصها، ويكتشف مشاكلها الحركية، ويصلحها قبل أن تتحوّل إلى جراح أو إصابات مزمنة. لكن منطق السوق غير منطق الطب. فالنادي يبيع الحلم، ولا يبيع خطر الإصابة. يبيع صورة القوة، لا احتمالات الضعف. أي تلميح بالوقاية من الإصابة يعني الإقرار بأن النادي قد يجرح قبل أن يداوي، وأن التمرين قد يؤذي قبل أن ينفع. والاعتراف باحتمال الإصابة عند لحظة البيع كفيل بأن يطفئ جذوة القرار عند العميل، ويجعل المشترك يتردّد. والتردّد، عند أصحاب النوادي، موت الصفقة.
حتى حين يطرق الألمُ جسدَ الرياضي، أو تعترضه إصابة خلال رحلة التمرين، تتجلّى مفارقة مدهشة: الألم في ثقافة مرتادي النوادي ليس نذير خطر، بل وسام شرف. ثقافة النوادي قائمة على النص المقدس: لا ألم، لا مكسب (No Pain, No Gain). فالعضلة المتصلّبة برهان جهد، والكتف المرهق شاهد عزيمة، والركبة المشتكية دلالة سعي. كل تلك الآلام تُقرأ كإشارات على جودة التمرين، لا كأسباب انسحاب من النادي، وكأن الجسد حين يئنّ، إنما يعلن أن البرنامج الرياضي قد بدأ يؤتي ثماره.
الرياضي يفاخر بقدرته على الاحتمال، لا باستسلامه للراحة، والنادي يستفيد من هذه الروح؛ فكلما كان الألم جزءًا من الهوية، قلّت احتمالات انقطاع الاشتراك أو التوقف عن التجديد. أما أن يدخل أخصائي العلاج الطبيعي ليقول: «قف»، فهو يعارض النص المقدّس الذي بُني عليه المكان. الدراسات تبين لنا سلوك مرتادي النوادي الرياضية مع الألم: أكثر من نصفهم ذاق طَعم الإصابة مرةً على الأقل؛ شدّ عضلي يقبض على الليونة، كدمة تلوّن الجسد، أو وجع يشتكي في مفصل. لكن ردّ فعلهم ليس ارتباكًا ولا عودة إلى الوراء، بل انتظار صبور. يبدأون براحة عابرة، ثم حبة مسكّن، ثم تعديل في شدة التمرين، ثم رجوع إلى الأجهزة كأن الألم لم يكن. بل إن بعضهم يواصل التمرين متحديًا الأوجاع، وكأن الجسد يختبر صلابته بالوجع لا بالراحة. قليلون فقط يبحثون عن يدٍ طبية، وكثيرون لا يطرقون بابها أبدًا. إنهم يؤمنون أن الجسد معمَل للترميم الذاتي، وأن الألم درسٌ في الصبر لا استدعاءٌ للإسعاف. فكيف تُقنع من يرى في التمرين علاجًا أن يدفع ثمن جلسة علاج طبيعي، وهو يعتقد أنها مجرد نسخة طبية من التمارين - تلك الوصفة التي يمارسها بنفسه بين الحديد والمرايا؟
أما فكرة الاحتفاظ بالعملاء في دورة ولاء بين العيادة والنادي، فتنكسر عند الحقيقة البسيطة: وهي أن كل مريض علاج طبيعي يحتاج تمرين، لكن ليس كل عميل يتمرّن في النادي يحتاج علاج. معنى ذلك أن كل عميل للعيادة سيتحول للنادي، لكن ليس كل عميل للنادي سيتحول للعيادة. هناك فرق في كمية التدفق بين المشروعين. الكفّة هنا تميل لصالح النادي، والدائرة لا تكتمل.
الدروس الاستراتيجية من ذلك أن نجاح الأعمال لا يُستقى من الأحلام بل من دراسة سلوك العميل، ومجاورة المشاريع لا تعني تكاملها، كما أن الجدران المشتركة لا تغيّر الثقافة المتجذّرة إن لم يُعاد تصميم نماذج العمل، فسيبقى وضع العيادة داخل النادي مجرّد حدس جميل، لكنه باهظ الثمن. قد يظهر نموذج هجين ينجح فقط حين يتوق العميل فعلًا إلى الجمع بين القوة والوقاية. فكرة ربط العيادة بالنادي في جوهرها بديعة، لكنّ الأفكار الإبداعية أحيانًا تظلّ خيالاً. وما يُظنّه المستثمر تطوّرًا طبيعيًا قد يكون مجرّد طريق دائري يقود إلى لا شيء.