د. سطام بن عبدالله آل سعد
حين نُحلل التحولات الاقتصادية والثقافية الكبرى، فإن النظريات التي كانت يومًا محصورة في الأطر الأكاديمية، تخرج من الكتب لتفسر الواقع. ومن بين أهم هذه النظريات التي تفسر حراك المملكة الترفيهي والثقافي، تبرز نظرية «الندرة النسبية» كعدسة ذكية لرؤية ما يجري في موسم الرياض.
هذه النظرية لا تعني غياب المورد تمامًا، بل تعني أن المورد موجود ولكن الطلب عليه يفوق العرض المتاح. وهذا المفهوم الذي ينطبق على الموارد الطبيعية كالنفط والمياه والطاقة، يمتد كذلك ليشمل كل مورد نادر يُطلب بكثافة ويتوافر بحدود، مثل الوقت، الموهبة، الفكرة، التجربة، وحتى الترفيه. والمملكة، من خلال موسم الرياض، أحسنت قراءة هذه المعادلة واستثمرت فيها.
قبل أعوام، كانت تجارب الترفيه النوعي شحيحة، ومحكومة بسياقات ضيّقة لم يُتَح لها الخروج إلى النطاق المؤسسي. وهنا تتضح الندرة النسبية بشكلها الحقيقي؛ فالكفاءات موجودة، لكن البيئة التي تمكّنها وتفعل دورها لم تكن متوافرة بما يكفي، إلى أن جاء موسم الرياض ليغير المعادلة.
تحول الموسم إلى منصة وطنية تُمكّن الكفاءات من إنتاج محتوى، وتنظيم فعاليات، وصناعة تجارب كان يُعتقد أنها لا تُصنع إلاّ في الخارج. لكن هذه المنصة عالجت الندرة النسبية عبر إعادة توزيع الفرص، وضخ الاستثمار، وتوفير أدوات التشغيل، فخرجت القدرات المحلية من الظل إلى الضوء، وتحوّلت من حالات فردية إلى منظومة احترافية متكاملة.
قام موسم الرياض بفتح آفاق جديدة لموارد كانت نادرة في السابق، وخلق طلبًا متزايدًا على تجارب نوعية وعروض مبتكرة وفعاليات متخصصة تخاطب مختلف فئات المجتمع، من الأطفال والمراهقين إلى الكبار والمثقفين والرياضيين. هذا التوسّع في نطاق الترفيه حفّز ظهور ندرات جديدة في السوق، تحتاج إلى من يسدّها بكفاءة. ومع كل موسم، يتزايد هذا الطلب، مما يخلق دورة تنموية مستمرة تقوم على تجديد الأفكار، وتطوير المحتوى، وبناء قدرات محلية قادرة على تلبية احتياجات قطاع يتسارع نموه عامًا بعد عام.
في الفكر الاقتصادي، تتحول الندرة إلى فرصة عندما تُدار بفعالية وذكاء. وفي هذا الإطار، تتجلى عبقرية رؤية 2030، حيث انتقل التركيز من تنمية الموارد التقليدية إلى الاستثمار في الندرة نفسها، من خلال تحفيز الابتكار وتمكين الكفاءات الوطنية. وها هو موسم الرياض يسهم في خلق 125 ألف وظيفة مباشرة وغير مباشرة، بمشاركة 2100 شركة، تمثل الشركات المحلية منها 95 %، بينما تبلغ القيمة السوقية لشعاره 3.2 مليار دولار. وما يحدث اليوم في قطاع الترفيه يؤكد تحوّله من رفاهية هامشية إلى صناعة تستثمر الندرة وتترجمها إلى مكاسب اقتصادية حقيقية.
الرياض اليوم تعد مدينة فعاليات ومركزًا لتوزيع فرص كانت نادرة، ومختبرًا لصناعة تجارب كانت حكرًا على عواصم عالمية وإقليمية. ففي كل عرض مسرحي، وفي كل تجربة تفاعلية، هناك أثر واضح على معادلة الندرة: إما بملئها، أو بتحفيز غيرها. باختصار، الندرة النسبية لم تكن عائقًا أمام موسم الرياض، بل كانت محرّكًا له. فالفهم العميق لهذا المفهوم جعل من الترفيه السعودي نموذجًا يحتذى به في كيفية تحويل الفجوات إلى قنوات للتنمية، والنقص إلى إبداع، والطلب إلى تجربة متكاملة.
إنها الندرة التي تصنع القيمة... وموسم الرياض أدرك هذه الحقيقة مبكرًا، فحوّل النظرية إلى واقع.