فائز بن سلمان الحمدي
ليست التجارب العظمى وليدة المصادفات ولا ثمار ارتجال عابر، بل تنشأ عن وعي متراكب وعزم نافذ وبصيرة تدرك أن صيانة العقائد وحماية الأوطان إنما تتقدم بسداد الفكر واستقامة الخطاب. وهكذا قامت المملكة العربية السعودية على عهد قادتها، فحملت لواء الإصلاح الديني حمل من يعرف ثقل الأمانة وخطر التهاون بها، وأقامت مشروعًا راسخًا يجمع بين نقاء العقيدة ووفاء الهوية العربية، وبين حزم الدولة ورشد الحكمة. فطهرت المنابر من لوثات الشعارات المتطرفة، وكشفت زيف الدعوات المتلونة التي كانت تتدثر برداء الدين لتشعل بها الفتن وتفرق بها الكلمة وتستبيح بها الحرمات. ولقد آن للشام الجريحة، وقد أضناها عقد من النزف والتنازع، أن تدرك أن البناء لا يقوم على أطلال ما لم يسند بوعي راسخ يحرسه خطاب ديني رصين، وأن مرحلة الدولة لا تحتمل ضريبة فوضى المنابر وارتباك الدروس من أجل ذلك صدع وزير الأوقاف السوري محمد أبو الخير شكري بالحقيقة وأقر بحاجة بلاده إلى الإفادة من خبرة المملكة في ضبط الخطاب الديني، وهي شهادة تقر بأن الرياض قد بلغت في هذا الميدان شأوًا بعيدًا، إذ أنشأت نموذجًا ناجحًا في الجمع بين الثبات على الموروث الشرعي والقدرة على صيانة الدولة من عبث الأهواء الحزبية. وفي صميم هذه التجربة يقف معالي الدكتور عبداللطيف آل الشيخ، وزير الشؤون الإسلامية، رجل أرهف حسه للحق وأصلب عزيمته في وجه الباطل، فخبر مكامن الدخن في الفكر المتطرف حتى استبان مسالك الإصلاح وأدرك أن التغيير ليس خطبًا تلقيها المنابر بل سياسة عمل متكاملة تهذب بها العقول وتصان بها الدولة، فأخذ بزمام الوزارة في عهد جديد، مستضيئًا بتوجيهات القيادة الرشيدة، فأعاد للمنبر صفاءه، ونقى الدرس العقدي من شوائب التسييس الحزبي، وقطع السبيل على من أراد جعل الدين مطيةً للأهواء، وأعاد إلى بيوت الله مهابتها الأولى: محلًا للوئام والهداية لا ساحةً للتشظي والصخب. ولم تكن مسيرته هينةً، فقد جابه مقاومة المنتفعين من فوضى الخطاب القديم، وسمع عجيج المتضررين ممن كان لهم في اضطراب المنابر مرعى، غير أنه مضى في طريقه، ثابت الخطى، حتى أينعت التجربة وأثمرت الوسطية والاعتدال وأحيت في المجتمع روح الطمأنينة واليقين. فكان بحق مثال المصلح الذي يجمع بين بصيرة الدين وفطنة الدولة، ويؤمن أن الرسالة السماوية لا تكتمل إلا إذا حمت النفوس من غوائل الغلو وصانت العقول من تضليل الشعارات. واليوم إتلتفت دمشق إلى الرياض تلتمس العون في مرحلة البناء، فإنها تشهد بأن المنهج الذي أرساه آل الشيخ وعضدته القيادة السعودية ليس موقفًا عارضًا بل مشروع نهضة رشيدة، تصلح أن تحتذى في مواطن أخرى مزقتها الأهواء. وإن الإنجاز الذي تحقق في المملكة ليشهد به انتظام المنابر، واعتدال الخطب، وارتفاع لواء الهوية الجامعة فوق العصبيات الحزبية والرايات الضيقة. سيحفظ التاريخ أن المملكة العربية السعودية -بقيادة خادم الحرمين الشريفين وسمو ولي العهد الأمين، وبجهود رجال مخلصين من طراز الدكتور عبداللطيف آل الشيخ- قد نهضت بمعركة الوعي في زمن عصفت فيه الفتن بالعقول قبل الديار، فطهرت الخطاب الديني من شوائب التطرف، وأعادت للمنبر العربي الإسلامي صداه الأصيل الرصين، حتى غدا نموذجًا يقتدى به ويسترشد بهديه في دروب الإصلاح والبناء.