ناصر بن محمد الحميدي
«الموت لا يأخذ الأحياء، بل يأخذ من كان الحياة ذاتها.»
حين يرحل إنسان عادي، نبكيه لحظة ثم نعود إلى رتابة أيامنا.
لكن حين يرحل رجلٌ من طينة أحمد بن منيف المنيفي، لا يبكيه الناس، بل تبكيه الأمكنة، وتشهق به الصمت، وتتردد اسمه الجدران التي شهدت على نزاهته، وحنكته، وإنسانيته.
لست هنا في مقام تأبينيًا عابرًا، ولا استدرارًا للعاطفة، بل تذكير صريح مع الغياب، ومحاولة جادة للقبض على ما تبقى من حضور رجل لم يكن يومًا رقمًا في إدارة، بل كان مبدأً يتحرك، وضميرًا يُصغي.
يا ترى، كيف يُقنعنا الغياب بهذا الرحيل؟
إنني أكتب هذا النص، لا لأن الموت فاجأني، فأنا ونحن نعرف أنه قادم، بل لأن الموت في هذه المرة اختار شخصية لا تليق بها النهاية.
الراحل أبو سطام لم يكن مجرد موظف دولة، بل كان تمثيلًا حيًا لمفهوم «الرجل العام» الذي لا تُغيّره المناصب، بل يكبُر معها وتكبُر به.
سأحاول أن أجادل الغياب هنا، كما يُجادل الفقيه مسألةً مُعضلة: لماذا الآن؟ ولماذا هو؟
وأي خسارة يمكننا قياسها حين يُؤخذ منا رجل كان يشكّل الفارق في كل موقع تسلّمه؟
فالمنيفي أبو سطام رجلٌ لا تشغله الأضواء، بل تشغله العدالة والمساواة والإخلاص في كل ما أسند إليه من تكليف وتشريف.
في أرشيف الصحافة، وتحديدًا في إحدى صفحات جريدة الندوة عام 1400هـ، استذكر حوارًا نادرًا أجريته معه، يتحدث فيه بصدقٍ عن هموم محافظة الزلفي، عن احتياجاتها، عن تطلعاتها، دون بهرجة أو دعاية شخصية. وحين نعود لتاريخ هذه المدينة، نكتشف أن كثيرًا من تلك المطالب تحققت.
فهل كان مجرد مسؤول ينقل صوت الناس؟ أم كان ناطقًا باسم المستقبل، بشفافية وجرأة؟
لقد كان الاثنَين معًا.
كان أحمد المنيفي من أولئك الذين لا يُعرّفون بالمكاتب، بل بالقلوب.
ولذا فإن فقده لا يشبه رحيل الآخرين، لأن فراغه لا يُملأ بمَنصب، بل بالأثر الذي خلّفه في النفوس.
ما كان لأحد أن يعرف الراحل عن قرب، دون أن يلمس فيه صفاتٍ ثلاثة لا تجتمع إلا في القليلين: وقار المسؤول، تواضع الإنسان، وصدق النيّة في العمل العام.
تدرّج في وزارة الداخلية حتى تولّى وكالة إمارة الباحة، ولم ينسَ أبدًا جذوره، ولا المناطق التي خدمها.
لم يكن منصبه سلطة تستعمل، بل تكليفًا يؤدى، ومسؤولية تفهم بأنها خدمة للناس لا عليهم.
لقد كان الوداع الأخير مهيباً، إذ شهده الآلاف للصلاة عليه، وازدحمت المقبرة بالرجال والنساء من مختلف أنحاء المملكة.
بعضهم جاء من البعيد، لا لأنهم أقارب، بل لأنهم عرفوا فيه ما يكفي ليحزنوا عليه وكأنهم من أهله.
ومن عرف أبناءه -سطام وراكان- يدرك أن من يربي هذين الابنين لا بد أن يكون رجلًا ذا معدن نادر. لكن، لا.. لن يُقنعنا هذا الوداع. ولن نكتب كلمة «نهاية» في دفتر هذا الرجل.
فبعض الناس، لا يُختصرون بسنوات حياتهم، بل يُقاسون بأثرهم، وما أكثره، وما أنبله.
في الختام: نم مطمئنًا يا أبا سطام، فقد تركت خلفك ما هو أعظم من السيرة.. تركت الصدق في الذكرى، والنبل في الأثر، والمحبة في الصدور.
رحمك الله، وغفر لك، وجعل قبرك روضة من رياض الجنة. و{إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ}.