فائز بن سلمان الحمدي
في فجر الصحراء المترامية الأطراف، حيث السكون يروي للتاريخ أنشودة البدايات، قامت المملكة العربية السعودية كمنارةٍ شاهقة، تستمد نورها من مشكاة الوحي، وتستظلُّ بآيةٍ عظيمة جعلت الأمة وسطاً بين الغالي والجافي: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا}.
لم يكن الاعتدال في نهجها شعاراً مُتزيّناً بالألفاظ، بل كان روحاً نابضة تسري في مؤسساتها، وميثاقاً ماثلاً في قراراتها، وجوهرًا راسخاً في سلوكها مع الداخل والخارج.
الوسطية في المملكة ليست ميلًا عابرًا ولا استجابةً لطارئٍ من أحداث الزمان، بل هي قدرٌ ارتسم منذ التأسيس، يُوازن بين ثبات العقيدة ورحابة الرؤية، بين الأصالة التي تحفظ الهوية والانفتاح الذي يُعلي من شأن التعاون والتعارف. فهي دولة تعي أن الغلو يُفني، والتفريط يُهلك، وأن الحقّ وسطٌ بين طرفين، فلا إفراط يُقصي، ولا تفريط يُذيب.
وتبدو ملامح هذا الاعتدال في صميم الحياة: في قضاءٍ يستلهم النصوص بروح المقاصد، وفي تعليمٍ يُنشئ جيلاً يملك عقل الناقد وفؤاد الحكيم، وفي خطابٍ دعوي يُذكّر بأن الإسلام رحمةٌ للعالمين لا سيفٌا مسلولا على رقاب المختلفين.
وفي الأسرة السعودية، حيث الأصالة حاضرة، نجد في الوقت نفسه روح العصر منفتحة على العلوم، مُشرِبةً للمعرفة، دون أن تتنازل عن هُويتها أو تُفرّط في ثوابتها.
وعلى صعيد السياسة، وقفت المملكة في ميدان العلاقات الدولية موقفاً لا يُغريه الاندفاع، ولا يرهبه التراجع؛ بل تقف حيث تقف الحكمة، تُمسك بزمام الموقف لتصنع الاستقرار، وتبسط يدها للسلام، وتُقيم وزنها بالعدل، فلا تُمالئ على حساب الحق، ولا تنحاز انحياز الأهواء.
إن الوسطية التي تمارسها المملكة ليست خصوصيةً إقليمية، بل هي هديٌ إنساني لو أشرق على أمم الأرض لانطفأت نيران التطرف، وتبددت غشاوة الانحلال. فهي وسطية تُعانق الإنسان من حيث هو إنسان، وتبني للحياة توازناً يحفظ بهاءها، ويقيها من جموح الإفراط وتيه التفريط. هكذا تُطلّ المملكة العربية السعودية على العالم بوجهٍ مضيء، يجمع بين الجذور الضاربة في عمق العقيدة، والأفق الفسيح الذي يتسع للناس أجمعين.
وسطيةٌ تنبع من صميم الوحي، وتترسخ بوعي التجربة، وتُثبت للأمم أن الاعتدال ليس خياراً هامشياً، بل هو السبيل الأمثل لصون المجتمعات، وصناعة المستقبل، ورسم غدٍ تُشرق فيه القيم كما تُشرق الشمس على رمال الجزيرة الطاهرة.