عبدالوهاب الفايز
كنا، وما زلنا، نتمنى ألّا نسمع عن ماضي الحروب الصليبية، فما حدث فيها من أهوال وكوارث للمنطقة وشعوبها عظيم ومؤلم، والأفضل أن يبقى بعيدًا ونسيًا منسيًا.
لكن أمريكا تعيدنا إلى هذا التاريخ، بعد أن أعلنت أنها أمة تتبنى مبدأ الحرب لا الدفاع. وقد تكون هذه النوايا موجة عابرة وغير مستقرة في مستقبل الجمهورية، فرجال الدولة ومنظّروها الكبار يرون أن الاستمرار في الإنفاق على الحروب وبناء الجيوش لن يتحمله وضع الاقتصاد الأمريكي المثقل بالديون، والمحاصر بنمو التكتلات الاقتصادية والصناعية الدولية الجديدة.
فحال السياسة وأمور الحكم قد لا يستقر طويلاً، وأمريكا معروفة بأنها تبني علاقاتها على الشراكات والمصالح التي تنفعها. كما أن السياسة الأمريكية الحالية تتبنى (الانعزالية والأنانية والمنّة)، وقد تنغلق على مشاكلها وتحدياتها الداخلية وتنشغل عنها بدلًا من إشعال الفوضى والحروب الخارجية، فنرتاح جميعًا!
لكن يبدو أن (حسن الظن) علينا أن نؤجّله قليلاً. فمنذ أن ألقى وزير الدفاع (بيت هيغسيث) كلمته أمام قادة الجيش في فرجينيا الأسبوع الماضي، أخذ النقاش منحى جديدًا حول مستقبل الدور الأمريكي في العالم. فالرجل لم يتحدث بلغة الدفاع والردع التقليدية التي تعودنا احتواءها واستيعاب مخاطرها، بل أعلن صراحة أن «زمن وزارة الدفاع انتهى، وحان زمن وزارة الحرب».
استهل هيغسيث خطابه باستدعاء حكمة رومانية قديمة: «من أراد السلام فليستعد للحرب». أراد بذلك أن يربط بين الشرعية التاريخية لفكرة الردع وبين اللحظة الراهنة، حيث تعود الولايات المتحدة لتضع الحرب في قلب عقيدتها، لا كاحتمال بعيد بل كخيار دائم الاستعداد. وأعاد التذكير بأن جورج واشنطن نفسه، أول قائد أعلى للجيش الأمريكي، تبنّى الفكرة ذاتها.
وهذا ليس مجرد تغيير في الكلمات، بل تعبير عن تحول في السردية: من خطاب الدولة إلى خطاب العقيدة، ومن منطق الدفاع إلى منطق الحملة الصليبية، ومن منطق الثورة/ الحركة لا من منطق الدولة العاقلة. وحالة التحول في العقيدة السياسية، وحالة عدم اليقين المربكة، بدأت تُفقد أمريكا مصداقيتها أمام العالم وتُعظم خطرها.
وهذا ما تناولته عميدة كلية العلاقات الدولية في جامعة كولومبيا كيرين يارحي-ميلو في مقالها: The Price of Unpredictability، (ثمن عدم القدرة على التنبؤ: كيف تُقوّض سياسة ترامب الخارجية مصداقية أمريكا، مجلة فورين أفيرز، أكتوبر 2025).
هيغسيث في كتابه الحملة الصليبية الأمريكية لا يخفي إعجابه بالرمزية التاريخية لفرسان الهيكل، الذين جمعوا بين السيف والصليب، ويرى أن أمريكا مدعوة اليوم للقيام بدور مشابه: أن تكون «الحارس الأخير» للحضارة الغربية في مواجهة «أعداء الداخل والخارج».
هذا المزج بين الدين والسياسة والأمن القومي يفتح الباب أمام أسئلة كبرى عن مستقبل العلاقات بين الولايات المتحدة والعالم الإسلامي، وعن أخطار استدعاء رموز الماضي في صراعات الحاضر.
وزير الدفاع الأمريكي المحارب يضع الإسلام كـ (عدو أبدي). فهو يرى أن الخطر الأكبر على بلاده مصدره مزيج من «الإسلاموية» و»اليسار الراديكالي». وهنا الخطاب يتجاوز كونه انتقادًا لتيارات سياسية أو جماعات مسلحة، ليضع المسلمين ككتلة حضارية في خانة التهديد.
هذا الخطاب يذكّر مباشرة بما قاله الرئيس الأمريكي الأسبق جورج بوش الابن بعد هجمات 11 سبتمبر حين استخدم مصطلح «crusade» (الحملة الصليبية) في وصف «الحرب على الإرهاب»، قبل أن يضطر البيت الأبيض للتراجع عنه تحت ضغط الانتقادات. لكن اليوم، مع هيغسيث، يبدو أن المصطلح لم يعد زلة لسان، والأخطر أن يصبح إطارًا فكريًا يوجه السياسة العسكرية.
والنتيجة المتوقعة واضحة: حين يشعر مليار ونصف المليار مسلم أن أكبر قوة عسكرية في العالم تراهم أعداءً أبديين، فإن هذا قد يغذي شعورًا جماعيًا بالخطر والارتياب.
مع استدعاء التاريخ وبعث ذاكرة الحروب الصليبية، فإن العالم الإسلامي لا يقرأ كلمة «حملة صليبية» بوصفها استعارة ثقافية عابرة، بل يستحضر تاريخًا مليئًا بالدماء. فالحروب الصليبية التي امتدت من 1096م حتى أواخر القرن الثالث عشر خلفت ذاكرة مريرة من المجازر، أبرزها ما حدث عند دخول الصليبيين القدس عام 1099م، حيث تشير المصادر الأوروبية نفسها إلى أن الدماء غمرت شوارع المدينة.
ورغم أن التاريخ شهد لاحقًا فترات من التعايش والتحالف بين المسلمين والمسيحيين، فإن الرمزية الصليبية ظلت في الوعي الجمعي للمسلمين رمزًا لـ (العدوان والهيمنة الأجنبية). واستدعاء هذا المصطلح اليوم من قبل مسؤول أمريكي لا يعني مجرد وصف، بل يوقظ أشباح الماضي ويعيد تشكيل صورة «العدو الخارجي» في أذهان الشعب الأمريكي.
في العالم الإسلامي، يثور سؤال جوهري: هل هذه السردية المحاربة سوف تورطنا عبر إيجاد مؤثرات نفسية لنمو بيئة خصبة للعنف؟ نرجو ألّا نرى ذلك. لكن الأخطر أن هذا الخطاب قد لا يبقى محصورًا في أروقة البنتاغون، بل ربما يُترجم في الخطاب الإعلامي والسياسي على نطاق واسع.
وهنا يكمن الخطر الأكبر: الجماعات المتطرفة في داخل أمريكا وخارجها ستجد في خطاب وزير الدفاع هيغسيث هدية مجانية.
في الداخل الأمريكي، هناك جماعات ما زالت تستدعي الدور الحضاري الديني للحضارة الغربية، وفي المقابل هناك جماعات متطرفة في العالم الإسلامي ترى أن الغرب ما زال يتطلع إلى «حرب صليبية جديدة»، والآن يأتي وزير الدفاع الأمريكي ليدعم روايتها بلسانه.
وفي المنطقة، ما زلنا نتذكر الدرس التاريخي المعاصر: حين غزت الولايات المتحدة العراق عام 2003 تحت شعار «نشر الديمقراطية»، استغل تنظيم القاعدة هذه الحرب ليقدم نفسه مدافعًا عن «الأمة الإسلامية». واليوم، قد يؤدي الخطاب الصليبي إلى موجة جديدة من التطرف، لا تقتصر على الجماعات الإسلامية فقط، بل قد تُنتج أيضًا تيارات يمينية متطرفة في الغرب ترى في الإسلام «عدوًا داخليًا».
بعد الأحداث المروعة في غزة، تبدو العلاقات الأمريكية - الإسلامية على المحك. ومن منظور العلاقات الدولية، ما يطرحه هيغسيث يهدد بإضعاف شبكة المصالح التي بنتها واشنطن مع العواصم الإسلامية خلال العقود الماضية. فالعديد من الدول الإسلامية، خصوصًا في الخليج وآسيا الوسطى، راهنت على الشراكة مع الولايات المتحدة في مجالات الأمن والطاقة والتقنية.
لكن إذا تحولت أمريكا رسميًا إلى «قوة صليبية محاربة»، فإن هذه الدول ستجد نفسها في مواجهة ضغوط شعبية داخلية تشكك في جدوى التحالف مع واشنطن.
الأمر لا يقف عند هذا الحد، وتغفل عنه الادارة الامريكية.
المنافسون الدوليون، مثل الصين وروسيا، سوف يجدون في هذا الخطاب فرصة ذهبية لتعزيز نفوذهم في العالم الإسلامي عبر تقديم أنفسهم كقوى لا تستهدف الدين ولا الثقافة المحلية. الصين مثلًا تبني سردية تقوم على «الاحترام المتبادل وعدم التدخل»، وهو خطاب يجد صدى لدى مجتمعات أنهكتها الحروب الأيديولوجية.
هل يعيد التاريخ نفسه؟ في القرن العشرين، شهدنا كيف أن السياسات التي تبنت العداوة على أساس الهوية أنتجت كوارث عالمية: النازية في ألمانيا صاغت عداءها لليهود كعداء حضاري ما انتهى بالمحرقة. الإمبراطورية اليابانية بررت غزوها لآسيا تحت شعار تفوق «العرق الياباني» على الشعوب الأخرى. وحتى في أمريكا نفسها، أدت النظرة إلى اليابانيين-الأمريكيين كـ»خطر داخلي» إلى احتجاز أكثر من 100 ألف منهم في معسكرات خلال الحرب العالمية الثانية. والتاريخ إذن يوضح أن تحويل الصراع السياسي إلى صراع هوية هو بداية الانزلاق نحو الاستبداد والعنف.
نحو أي مستقبل نتجه؟ هذا هو السؤال الذي يفرض نفسه: هل تدرك الإدارة الأمريكية حجم المخاطر التي تولدها هذه السردية؟ أم أن الخطاب الصليبي سيصبح الموجه الأساسي للسياسة العسكرية في المرحلة المقبلة؟ إن بناء الاستراتيجية على أسس عقائدية مغلقة سيُدخل الولايات المتحدة في صراع طويل لا ينتهي، ويضعها في مواجهة مع شعوب بأكملها بدلًا من جماعات محدودة. والأخطر أن ذلك سيجعل العالم أكثر انقسامًا في وقت يحتاج فيه إلى التعاون لمواجهة تحديات كبرى: من التغير المناخي، إلى الذكاء الاصطناعي، إلى الأوبئة العابرة للحدود.
وماذا نتعلم من درس الماضي؟ لقد أثبت التاريخ أن الحروب الصليبية لم تحقق نصرًا دائمًا لأحد، بل خلفت أحقادًا استمرت قرونًا. وإذا كانت أمريكا تعيد اليوم إنتاج هذا الخطاب، فهي لا تطلق مرحلة جديدة للقوة والهيمنة، بل تفتح الباب أمام دورة جديدة من الصراع الذي لن يربح فيه أحد. قد لا تكون مجرد أزمة علاقة بين أمريكا والعالم الإسلامي، بل أزمة في مستقبل النظام الدولي بأكمله. فحين يُبنى الأمن القومي على رؤية تعتبر الآخر عدوًا بحكم هويته، فإن الإنسانية كلها تصبح مهددة.