منال الحصيني
أثبت علم الأعصاب أن الدماغ أثناء استرجاعه لذكرى ما، يقوم بإعادة بناء المشهد أكثر من عرضه، وهذا يعني أن كل ذكرى قابلة للتغيير وربما التشويه مع مرور الزمن حتى وإن كانت تحمل الصدق وبذلك فالذاكرة ليست كتاباً ولكنها أشبه برواية متجددة كما يقال.
التأمل في الذاكرة يجعلنا نلمح سريعاً أنها ليست صافية تماما هي أشبه بمن ينظر إلى وجهه في ماء يتحرك يرى ملامحه لكن الأمواج تشوه التفاصيل الصورة ضبابية اللون، تعكس جزءا من التفاصيل وتخفي معظمها فما نحمله في عقولنا ليس كل ما حدث بالفعل لكنه ما اختارته عقولنا لحفظه أو بالأحرى وبشكل أدق ما استطاعت عاطفتنا أن تلونه بألوانها، لذلك الذاكرة خيانة صريحة للحقيقة وإن كان لا بد منها كوسيلة للبقاء الإنساني.
وحدها الذاكرة من تعيد تشكيل المواقف والأحداث وفقاً لاحتياجاتنا النفسية والوجودية أيضا.
«الخيانة» للذاكرة ربما تكون نعمة فلو أنها احتفظت بالجروح والآلام والمواقف الصعبة كما هي وبدقة متناهية لما احتملت الحياة ، وكونها تلون الشدائد بظلال يخفف وطأة الألم ويسمح لنا بالاستمرار في هذه الحياة والنهوض من كل ابتلاء.
وعلى الرغم من كونها قادرة على الانتقاء وتخفيف قوة الحدث لكنها تحمل شيئا من الخطورة فليس كل ما تظلله بالضرورة أن يعطي حياتنا شيئا من التوازن إن لم نكن واعين ومدركين لما تمليه علينا فربما ظللت صورة مشوهة عن أنفسنا نتمسك بها ونعيش في أوهام علينا أن نعي أنها وسيلة للبقاء تخفف حدة الألم لا ناقلة للحقيقة الكاملة هذا في جانب المواقف اليومية والذكريات الشخصية في الفشل والنهوض علينا أن نروي ما حدث كنقطة تحول لا كفشل لنحول الذكرى من تسجيل للأحداث إلى صياغة تناسب سردية الذات لتدفع للنجاح.
بذلك تكون الذاكرة مساحة بينية ومزيجا بين الحاجة للنجاة والرغبة في فهم المعنى.
قد تخون الذاكرة حقيقة المواقف المراد تذكرها مع الزمن بحسب ما تمليه مشاعرنا كما نُريد لا كما يُراد كونها عملية ديناميكية معقدة يعيد الدماغ فيها بناء الحدث في كل مرة يتم استرجاعه فقد يضيف تفاصيل ويحذف أخرى دون وعي تماما كما لو أنك تسترجع رسالة كتبتها في كل مرة على جهازك المحمول.
خيانة الذاكرة ليست بهذه السلبية كما نتصور بدليل مواقف الفقد المؤلمة فالذاكرة تستعيد الجميل من الأيام والذكريات والكثير من الصفات الحسنة لهذا الفقيد مما يخفف من قوة الحزن ليحصرها حول كل ما هو جميل ليخفف مرارة الفقد.
وللعلم لا تقتصر خيانة الذاكرة على الأفراد فلها نصيب كبير من التأثير على مستوى الشعوب فالكثير من الدول تلمّع صفحات تاريخها لتترك الهفوات على هامش التاريخ وتبني هوية وطنية أكثر توافقا مع حاضرها
هنا تصبح الذاكرة الجمعية خيانة للحقيقة الكاملة ولكن في الوقت نفسه وسيلة لبقاء الشعوب.
الذاكرة أشبه بوجه مبتسم وباكٍ في وقت واحد، فربما خدعتنا لتجعلنا نؤمن بشيء لم يحدث أساسا كما نتذكره وربما حمتنا من الحقيقة التي قد تكون أثقل وقعا مما نحتمله
هي ليست خيانة مطلقة ولا وفاء تاما.. هي المزيج بين الاثنين كونها الطريق الذي ينهجه العقل ليمنحنا إمكانية البقاء بهدوء في هذا العالم المتغير.