د. عبدالحليم موسى
أكتب هذا المقال من خلال زيارتي المتكررة الأيام الفائتة لبعض المستشفيات بالأحساء للاستشفاء، وقد لمست خلالها أن الطبيب ليس مجرد ناقل للعلاج أو واصف لدواء، بل هو ذلك الحضور الإنساني الذي يفتح نافذة أمل أمام المريض حين تحاصر جدران الألم روحه، فالعلاقة بين المريض وطبيبه تتجاوز حدود التشخيص والدواء، لتصبح فعلاً وجودياً تتقاطع فيه مخاوف الجسد مع احتياجات الروح، فحين يخطو المريض عتبة المستشفى، لا يبحث عن علاج جسده فحسب، بل عن إنسان يطمئنه بكلمة، ويعيد له ثقته بذاته، ويذكره بأن لحياته معنى، من هنا تبدأ رحلة الطاقة الإيجابية فهي التي تتجسد في نبرة الصوت، ونظرة العين، ولمسة اليد، لتشعل في داخل المريض قدرة جديدة على مواجهة الألم والصمود أمام جسد ابن سيناء فكرة الطاقة الإيجابية ودورها في شفاء المريض، إذ يرى أن التفاؤل والرجاء والسرور ليست مجرد مشاعر، بل قوى فاعلة تُعين الجسد على مقاومة العلل وتسريع التعافي؛ فالطاقة الإيجابية ليست رفاهية نفسية، بل قوة بنائية تساعد الإنسان على مجابهة الشدائد، ومن يمتلك سببا للعيش يمكنه تحمل أي ألم جسدي أو نفسي، والطبيب الإنسان يصبح ناقلاً لطاقة إيجابية تذكّر المرضى بمعنى حياتهم وجدواها؛ فتلك الكلمة الطيبة قد تعادل جرعة دواء، لأنها لا تعالج الجسد وحده، بل تضيء شعلة الرجاء في الروح.
منذ اللحظة الأولى لدخولي بعض تلك المستشفيات، اكتشفت أن الرعاية الصحية ليست مهمة الطبيب وحده، بل هي منظومة إنسانية متكاملة من الموظفين أبو خالد وصحبه الذين قابلوني ومريضي بابتسامتهم العذبة التي تذيب شعور الغربة والألم، مروراً بموظفي التأمين الذين يزيلون عنك عبء القلق المادي، إلى الممرضات اللواتي يجسدن جسراً بين العلم والرحمة، وصولاً إلى عمال النظافة الذين ببصمتهم يخلقون فضاءً آمناً هادئاً، فهذه كلها عناصر شكلت عندي شبكة دعم امتصت آلامي وأوجاعي وزرعت فيّ روح الطمأنينة.
أشار عليّ أحد الأطباء البارعين حين عرضت عليه المقال، فذكر لي أهمية المصطلح الطبي المعروف باسم (Placebo) في علاج المرضي، وهو دواء بلا أيّ مادة فعّالة، يوصي به الطبيب أحياناً لبعض المرضى حسب حالة المريض، لكن المدهش أن المريض قد يتحسّن فعلياً من تناوله لهذا الدواء، حين يؤمن أن العلاج سينجح، وهنا تتجلّى قوة النفس التي قد تضاهي أحياناً قوة الدواء نفسه، وهذا ما يُعرف بتأثير البلاسيبو، ويكشف كيف أن الجانب النفسي قد يوازي قوة الدواء في عملية الشفاء.
ثم يأتي دور إدارة المستشفيات التي تحتضن قيماً إنسانية في تعاملها، حينما تمنح المريض شعوراً بالاهتمام والكرامة، فلا يكون مجرد رقم في سجلات المرضى، بل كائن له قيمة وصوت يُسمع، فتصبح الإدارة نفسها جزءاً من العلاج، وتغدو مصدراً للطاقة الإيجابية التي تتسرب إلى روح المريض.
أما أهل المريض، فحضورهم هو الركيزة الأساسية في هذه الرحلة، فالمريض الذي يحيط به أحباؤه يشعر أن حياته ما زالت ثمينة، وأن الألم لا يمحو إنسانيته، وأن لمسة حنان من أم، أو دعاء صادق من صديق، قد يكون له أثر أعمق من أي علاج مادي، فالأسرة هنا لا تشكل وجوداً ديكورياً، بل حلقة مركزية في المنظومة العلاجية، تجمع بين العلم والعاطفة، بين النظام والرحمة.
ونقف مع عبارات الفيلسوف والطبيب ابن طفيل الأندلسي في كتابه حي بن يقظان، حينما أشار إلى دور الطاقة الإيجابية في مقاومة العلل، فالنفس المطمئنة عنده سبب للبدن السليم؛ وهذا القول يؤكد مجدداً العلاقة الجوهرية بين الطمأنينة النفسية والطاقة الإيجابية وقدرتها على تعزيز صحة الجسد، بما يتناغم مع فكرة ماسلو الحديثة عن الحاجة إلى الرضا النفسي والاجتماعي جنباً إلى جنب مع الاحتياجات البيولوجية. فالطاقة الإيجابية التي يمنحها كل من الطبيب، الممرض، الإدارة، والأسرة لا تقل أهمية عن العلاج الدوائي، بل تشكل وحدة متكاملة تمنح المريض قوة جديدة لمواجهة المرض.
غير أن الصورة العكسية في بعض الدول الأخرى تكشف وجهاً أكثر قسوة، حيث يُختزل المريض في ورقة تأمين أو فاتورة مالية، ويصبح الحوار معه بارداً وخالياً من التعاطف، فهناك في بعض تلك المستشفيات يُنظر إلى المرض باعتباره فرصة للتربح وجني الأموال، فهي عبارة عن أسواق صامتة تُباع فيها الآلام وتُشترى فيها الآمال، فتغيب المسؤولية الأخلاقية، ومعها القيم الإنسانية، لتحضر المعاملة الميكانيكية، وكأن الألم نفسه سلعة قابلة للبيع والشراء. وحين يسود هذا المنحى البراغماتي، يفقد الطب جوهره الإنساني، ويتحول من رسالة خلاص إلى صناعة باردة تحركها المصالح لا الضمائر.