نجلاء العتيبي
اخفضوا هواتفكم عن وجوه البشر الغافلين ليست كل لحظة تلتقط بعدسة، وليست كل صورة تحفظ لتنشر، هناك أناس يشاركون الآخرين مناسباتهم؛ ليعيشوا تفاصيل حياتهم ببساطة.. لا ليصبحوا مشهدًا في هاتف شخص آخر.
كيف يجرؤ إنسان على رفع هاتفه لتصوير دون استئذان! وكأن الوجود في مكان عام يبيح انتهاك الخصوصية! إن مثل هذا السلوك مهما بدا عاديًا يمثل اعتداءً على حق أصيل: حق الإنسان في أن يعيش بعيدًا عن المراقبة أو التدخل في حياته الخاصة.
مع اتساع دائرة التكنولوجيا وتنوع أدواتها أصبحت حماية الخصوصية من أبرز التحديات التي تواجه المجتمعات المعاصرة، فالهواتف الذكية والتطبيقات المتعددة والكاميرات الصغيرة جعلت الاعتداء على هذا الحق أكثر شيوعًا، وهو ما دفع التشريعات الحديثة إلى التعامل مع هذه الأفعال بجدية باعتبارها تجاوزات تمس الكرامة الإنسانية، وتستوجب المحاسبة.
فالخصوصية حق طبيعي لكل إنسان؛ فهي المساحة التي تضمن له الأمان والراحة حتى وهو في أماكن عامة، فلا أحد يملك الحق في مراقبته أو تصويره أو تتبع حركاته.
فالوجود في فضاء عام لا يلغي حق الفرد في أن يعيش مطمئنًا دون أن تستباح حياته أو تسجل تفاصيله، وكما أن المنزل محمي من أي اقتحام، فإن الفضاء العام يجب أن يدار بالمنطق ذاته: حماية الإنسان من التصوير الخفي غير المسموح به.
فتأثير هذه الانتهاكات يتجاوز حدود القانون ليصل إلى النفس والمجتمع، وتصوير الآخرين أو نشر صورهم دون إذن قد يفقد الشخص طمأنينته، ويولد بيئةً يسودها الشك وانعدام الثقة بين الأفراد؛ ولهذا تطبق القوانين الصارمة لحماية الفرد والمجتمع من الانحدار نحو ثقافة انتهاك الخصوصية، وانعدام الاحترام.
كثير من الدول أدركت خطورة هذه الظاهرة، فجرمت تصوير الأشخاص دون علمهم أو تسجيل أصواتهم أو نشر صورهم عبر المنصات الرقمية.
ولم يعد الأمر مجرد توجيه أخلاقي، بل أصبح التزامًا قانونيًا واضحًا يعاقب المخالفين.
وما ينشر في ثوان قد يبقى حاضرًا لسنوات، وربما يستخدم للإضرار بالسمعة أو بالعلاقات أو بالمسار العملي للشخص.
هذا الإطار القانوني يمنح الناس شعورًا بالأمان أثناء حياتهم اليومية، سواء كانوا في الأسواق أو الحدائق أو المناسبات العامة أو حتى عند استخدام المرافق الخدمية؛ فالأمان لا يتحقق بغياب الخطر المادي فحسب، وإنما أيضًا بغياب التهديد المعنوي المرتبط بفقدان السيطرة على الصورة والبيانات والتفاصيل الشخصية.
فاحترام الخصوصية يصبح شرطًا أساسيًا لتحقيق التوازن بين الانفتاح الاجتماعي وحرية الفرد، لكن المسؤولية لا تقتصر على القانون فقط؛ فهي تشمل وعيًا أخلاقيًا جماعيًا، فالتشريع يرسم الحدود، ويحدد العقوبات، لكن التربية والقيم هي التي تغرس احترام هذه الحدود في النفوس.
وعلى الناس أن يدركوا أن التعدي على خصوصية الآخرين ليس فضولًا بريئًا ولا تسلية سهلة؛ إنه فعل مشين يجرح الكرامة، ويسم مرتكبه بالسوء.
وغرس وعي احترام الآخر، ومخافة الله يبدأ من الأسرة، ثم يتعزز في المدرسة حتى يتحول إلى ثقافة عامة تذكر الجميع بأن للإنسان حقًا في أن يعيش لحظاته مطمئنًا دون أن يصور، وتنشر تفاصيل حياته من غير علمه، وبأن عليهم في المقابل أن يحترموا الآخرين كما يحبون أن يحترموا. إن المجتمع الذي يعي قيمة الخصوصية ويتبناها عمليًا يتجه نحو بيئة أكثر ثقةً وأمانًا، وبناء مثل هذا المجتمع يحتاج إلى أكثر من مواد قانونية أو أجهزة رقابية؛ إنه يحتاج إلى وعي إنساني يرسخ أن وجود الفرد في الأماكن العامة لا يبيح كشف تفاصيله أو العبث بحياته، وعندما يتحول هذا الإدراك إلى سلوك يومي يصبح احترام الخصوصية قاعدةً راسخةً تشعر الجميع بالكرامة والطمأنينة في فضاء مشترك يجمعهم.
فتصوير الآخرين دون إذن جريمة يعاقب عليها القانون، ولا ننسى أن الله مطلع على كل الأفعال، وسيحاسب المتعدي على خصوصية غيره، وهذا ما يضاعف المسؤولية الأخلاقية والدينية إلى جانب القانونية، ويؤكد أن احترام حقوق الآخرين وحمايتها واجب دائم لا يجوز التفريط فيه.
ضــوء
«دع هاتفك ينطفئ عن حياة الناس، وتذكر عقاب الله».