تعيش الأسواق المالية الأمريكية منذ مطلع عام 2025 واحدة من أكثر الموجات صعودًا في السنوات الأخيرة. فقد سجل مؤشر ستاندرد آند بورز 500 (SالجزيرةP 500) أكثر من 28 قمة قياسية خلال العام، مدعومًا بتوقعات خفض أسعار الفائدة من قبل الاحتياطي الفيدرالي واستمرار قوة أرباح الشركات الكبرى. كما ارتفع مؤشر داو جونز الصناعي بنسبة تقارب 9% منذ بداية العام، فيما حقق مؤشر ناسداك مكاسب تجاوزت 17%، وهو ما يعكس موجة ثقة قوية في قطاع التكنولوجيا تحديدًا. هذه الأرقام جعلت العديد من المحللين يصفون 2025 بأنه «عام التفاؤل المالي».
إلا أن هذا التفاؤل المفرط لم يمر دون إثارة مخاوف من احتمالية دخول الأسواق في «مرحلة فقاعية» مشابهة لما حدث في بداية الألفية مع فقاعة الإنترنت أو في الأعوام التي سبقت الأزمة المالية العالمية 2008. ومع أن قوة الأسواق تعكس توقعات المستثمرين بشأن تراجع تكلفة الاقتراض وتحسن هوامش الشركات، إلا أن مؤشرات الاقتصاد الحقيقي في الولايات المتحدة ترسل رسائل مغايرة، ما يضعنا أمام مفارقة تستحق التحليل. ويوضح الشكل (1) الفجوة المتنامية بين معدل نمو الناتج المحلي الأمريكي وأداء مؤشر ناسداك منذ عام 2023، في إشارة إلى أن الأسواق المالية باتت تسعّر المستقبل بدرجة من التفاؤل تتجاوز ما تسمح به الأساسيات الاقتصادية. ويعكس هذا الانفصال المتزايد ميل المستثمرين إلى المراهنة على النمو المستقبلي أكثر من الاستجابة للواقع الاقتصادي الراهن، وهو ما يُنذر باحتمال دخول الأسواق في مرحلة إعادة تقييم أكثر واقعية في المدى المتوسط. وفى حال استمر هذا التباين بين أداء الأسواق والاقتصاد الحقيقي، فقد يشهد عام 2026 مرحلة إعادة توازن بين قيم الأسهم ومؤشرات النمو الفعلي، خصوصًا في حال تباطؤ عوائد قطاع التكنولوجيا أو عودة التضخم للارتفاع. ومع ذلك، تبقى قوة الابتكار والاستثمار في القطاعات الرقمية عاملاً داعمًا لاستدامة النمو على المدى الطويل، شرط أن يتزامن مع سياسات مالية ونقدية أكثر اتزانًا تكبح الإفراط في التسعير وتعيد الارتباط بين الأسواق والاقتصاد الحقيقي.
الشكل (1): تزايد الفجوة بين أداء الاقتصاد الحقيقي ومؤشرات وول ستريت - مؤشر ناسداك مقابل معدل نمو الناتج المحلي في الولايات المتحدة (2018-2025)
ويظهر من خلال البيانات الأخيرة أن الأسواق الأمريكية تعيش حالة من المبالغة في التسعير. فقد عادت ظاهرة أسهم الميم (Meme Stocks) للواجهة، حيث ارتفعت أسهم شركات صغيرة مثل منصات العقار الرقمي أو التطبيقات التكنولوجية بنسب تجاوزت 300% خلال أشهر قليلة، وهو ما يعكس شهية مضاربية عالية قد تفتقر للأساسيات الاقتصادية. كذلك، شهدت سوق الطروحات الأولية (IPO) أداءً استثنائيًا، إذ ارتفعت أسهم الشركات الجديدة بمعدل 34% في أول يوم تداول، وهو أعلى متوسط منذ عام 2000، ما يعكس إقبال المستثمرين على المخاطرة بشكل مفرط.
إضافة إلى ذلك، تستحوذ ما يعرف بـ»السبع الكبار» (آبل، مايكروسوفت، أمازون، ميتا، ألفابت، تسلا، وإنفيديا) على نحو 37% من القيمة السوقية لمؤشر SالجزيرةP 500، وهو أعلى تركّز تاريخي للمؤشر. هذا التركّز يجعل السوق هشًا، حيث يكفي حدوث تباطؤ في أداء هذه الشركات العملاقة لجرّ المؤشر بأكمله إلى الأسفل.
وعلى الرغم من موجة التفاؤل في أسواق الأسهم، فإن حركة المعادن الثمينة تعكس قصة أخرى. فقد ارتفع سعر الذهب ليحقق أفضل أداء فصلي منذ عام 1979، بينما قفزت أسعار الفضة بنحو 60% منذ بداية العام. هذه القفزات توحي بأن المستثمرين يبحثون في الوقت نفسه عن ملاذات آمنة تحسبًا لاحتمال عودة التضخم أو اندلاع أزمات مالية مفاجئة. بمعنى آخر، نشهد ازدواجية في السلوك الاستثماري: تفاؤل مفرط في الأسهم يقابله قلق متزايد يدفع إلى شراء الذهب.
وفي مقابل التفاؤل المالي، أظهرت بيانات مؤشر ثقة المستهلك الأمريكي لشهر سبتمبر 2025 تراجعًا إلى مستوى 94.2 نقطة مقارنة بـ97.8 نقطة في أغسطس. هذا التراجع يعكس قلق الأسر الأمريكية بشأن المستقبل، خاصة مع تباطؤ سوق العمل وارتفاع تكاليف المعيشة. فالمستهلك الأمريكي، الذي يمثل إنفاقه نحو ثلثي الناتج المحلي الإجمالي، يبدو أقل تفاؤلًا من المستثمرين في وول ستريت.
هذا الانفصال بين الأسواق المالية والاقتصاد الحقيقي ليس جديدًا، لكنه يطرح سؤالًا أساسيًا: هل يمكن للاقتصاد الأمريكي أن يواصل دعم موجة التفاؤل المالي إذا استمر تراجع ثقة المستهلكين؟
من جانب آخر، أظهر مؤشر Case-Shiller لأسعار المنازل ارتفاعًا بنسبة 1.7% فقط على أساس سنوي في يوليو، وهو أضعف معدل نمو منذ 2023. بعض المدن مثل نيويورك سجلت زيادات طفيفة (6.4%)، بينما تراجعت الأسعار في مدن أخرى مثل تامبا وفينيكس. هذا التفاوت يعكس فقدان الزخم في سوق العقار الأمريكي، الذي يعد عادةً مرآة للثروة الأسرية وللقدرة الشرائية للمستهلكين.
التباطؤ في سوق المساكن قد يقوّض قدرة الأسر على الإنفاق، خاصة في ظل استمرار ارتفاع أسعار الفائدة على الرهون العقارية نسبيًا رغم تخفيضات الفيدرالي.
كل هذه التطورات ليست شأناً أمريكيًا بحتًا، بل تمتد انعكاساتها إلى الأسواق الناشئة ومن ضمنها دول الخليج. ففي حال تعرضت الأسواق الأمريكية لتصحيح حاد، فإن ذلك سيؤدي غالبًا إلى تقلبات في تدفقات رؤوس الأموال نحو الأسواق الناشئة، بما في ذلك السعودية. لكن من جهة أخرى، فإن السعودية تمتلك وضعًا مميزًا بفعل استمرار أسعار النفط فوق 60 دولارًا للبرميل، ما يمنحها هوامش مالية قوية لحماية اقتصادها من الصدمات العالمية.
يُظهر الشكل (2) تزامن ارتفاع مؤشر ستاندرد آند بورز مع صعود معدل السايبور السعودي إلى 5.4% في أغسطس 2025 مدى ترابط الدورة المالية العالمية، وانتقال تأثير السياسة النقدية الأمريكية إلى الأسواق المرتبطة بالدولار. ورغم هذا التشدد النقدي، حافظ مؤشر تداول عند 11,529 نقطة على أداء متماسك، ما يعكس مرونة السوق السعودي واستناده إلى أساسيات اقتصادية قوية تفوق التأثيرات العابرة للدورات المالية العالمية.
إن هذا التوازي بين الأسواق يعكس واقعًا جديدًا مفاده أن الاقتصاد السعودي بات جزءًا فاعلًا في شبكة الترابط المالي الدولي، لكنه في الوقت ذاته يمتلك أدوات داخلية قادرة على امتصاص الصدمات، وتحويل موجات التشدد النقدي العالمي إلى فرص لإعادة تسعير المخاطر واستقطاب رؤوس الأموال طويلة الأجل . وعلى المدى القريب، يُتوقع أن تستمر حساسية السوق السعودي تجاه تحركات الفائدة الأمريكية، لكن مع تعزيز استقلاليته تدريجيًا مع اتساع قاعدة التمويل المحلي وتزايد عمق السوق. أما على المدى المتوسط، فستسهم برامج الطرح العام وتوسع الاستثمارات الحكومية في تخفيف أثر التقلبات الخارجية، بما يجعل تداول أقل تأثرًا بالدورات النقدية العالمية وأكثر ارتباطًا بالإصلاحات الهيكلية ورؤية 2030..
الشكل (2): العلاقة بين الأسواق المالية والسياسات النقدية - تطور مؤشر ستاندرد آند بورز الأمريكي، ومؤشر تداول السعودي، ومعدل سعر الفائدة (سايبور) 2018-2025
بالإضافة إلى ذلك، فإن الاضطراب في الأسواق المتقدمة قد يعزز جاذبية سوق الأسهم السعودية (تداول) كخيار بديل للمستثمرين الباحثين عن الاستقرار النسبي والأساسيات القوية. ومع تسارع برامج الطرح العام للشركات الكبرى ضمن رؤية 2030، يمكن أن تتحول الرياض إلى مركز مالي أكثر جاذبية للاستثمارات الإقليمية والدولية.
غير أن التحديات تظل قائمة. فإذا عادت معدلات التضخم في الولايات المتحدة للارتفاع بفعل سياسات تجارية حمائية أو اضطرابات في سلاسل الإمداد، فإن الاحتياطي الفيدرالي قد يضطر إلى التراجع عن سياسات التيسير النقدي. وبما أن الريال السعودي مرتبط بالدولار، فإن البنك المركزي السعودي (ساما) ستكون مضطرة لمجاراة السياسة النقدية الأمريكية، مما قد يبطئ وتيرة التوسع الائتماني المحلي ويؤثر على كلفة التمويل للمؤسسات والأفراد.
ما يميز الاقتصاد السعودي اليوم هو أن رؤية 2030 وضعت الأساس لتنويع مصادر الدخل بعيدًا عن النفط، مع تركيز كبير على جذب الاستثمارات الأجنبية المباشرة، تطوير قطاع السياحة، وتعزيز البنية التحتية المالية والتكنولوجية. وبالتالي، حتى لو شهدت الأسواق الأمريكية تصحيحًا أو تقلبات، فإن السعودية قادرة على حماية مسارها الاقتصادي عبر أدوات مالية واحتياطيات قوية، فضلاً عن برامج استثمارية يقودها صندوق الاستثمارات العامة (PIF). هذه المرونة تمنح المملكة أفضلية نسبية مقارنة بكثير من الاقتصادات الناشئة الأخرى، وتؤهلها لاحتلال مكانة متقدمة كمركز اقتصادي إقليمي قادر على امتصاص الصدمات العالمية.
خاتماً يمكن القول إن الاقتصاد العالمي يعيش اليوم حالة «انفصال» بين مؤشرات الأسواق المالية ومؤشرات الاقتصاد الحقيقي. ففي حين تبدو وول ستريت متفائلة إلى حد المبالغة، يظهر المستهلك الأمريكي أكثر حذرًا، وسوق العقار يفقد زخمه، والمعادن الثمينة تعكس ارتفاع مستوى القلق.
بالنسبة للسعودية، فإن متابعة هذه التطورات بدقة أمر ضروري لضمان استقرار مسار التحول الاقتصادي. فالتقلبات في الأسواق العالمية يمكن أن توفر فرصًا لتعزيز مكانة سوق المال السعودي، لكنها تطرح أيضًا تحديات على السياسة النقدية والاستثمارية.
وفي المحصلة، لا تقتصر أهمية متابعة التحولات العالمية على قراءة الظرف الراهن، بل تمتد إلى استشراف مسارات التمويل والاستثمار في مرحلة ما بعد التحول النقدي العالمي. فالمملكة اليوم تمتلك من الأدوات والسياسات ما يؤهلها لتجاوز دور المتلقي للتقلبات، لتصبح صانعة للاتجاهات الاقتصادية في المنطقة. ومع تعمق أسواق المال، وتوسع الطروحات، وتنامي استثمارات صندوق الاستثمارات العامة، تتجه الرياض لترسيخ مكانتها كمركز مالي يوازن بين الانفتاح على رأس المال العالمي والحفاظ على استقرارها المالي والسيادي.
ومن منظور استشرافي، فإن العقد المقبل قد يشهد تحول الرياض إلى محور رئيس في إعادة تشكيل الجغرافيا الاقتصادية للشرق الأوسط، مدفوعة برؤية 2030 التي تدمج بين التمويل المستدام، والتقنيات المالية، والطاقة النظيفة. التحدي الأكبر إذن لا يكمن في مجاراة التحولات، بل في قيادتها، وتحويل الزخم العالمي إلى قوة دفع داخلية تكرِّس المملكة كأحد العقول الاقتصادية الفاعلة في الاقتصاد العالمي الجديد.
** **
أ.د. هدى منصور - أستاذ الاقتصاد متخصص بتحليل البيانات والابتكار الاقتصادي