محمد الخيبري
في محراب المستديرة الساحرة لا تقتصر الريادة على مجرد تسجيل الأهداف أو الفوز بالبطولات؛ إنها رحلة تتجاوز حدود الزمن لتصنع «الأسطورة»..
فما هي هذه الهالة التي تُمنح لقلة مختارة، وما الثمن المعياري الذي يجب أن يُدفع لنيل لقب يرفع صاحبه إلى مصاف الخالدين في ذاكرة وطن؟..
أسطورة كرة القدم ليست مجرد نجم عابر، بل هي بصمة لا تُمحى، وحكاية تُروى عبر الأجيال..
إنه اللاعب الذي تخطت نجوميته حدود الموهبة لتصبح رمزًا قوميًا، ومثالًا يُحتذى به في التفاني والإخلاص..
ولتجنب الانجراف خلف العاطفة، يجب أن يخضع تنصيب الأسطورة لـ معايير رياضية منطقية صارمة..
استمرارية العطاء (المنحنى الزمني) لا يكفي موسما أو موسمين، بل يجب أن يمتد عطاء اللاعب لـ عقد من الزمن أو أكثر، محافظًا على مستوى النخبة..
الأسطورة هو قوام الفريق على مر الفصول والتأثير الحاسم (الأرقام والإحصائيات) أن يكون دائمًا نقطة التحول في المباريات الكبرى والنهائيات..
ليس مجرد المشاركة، بل صناعة الفارق الجوهري في تحقيق الألقاب الوطنية والقارية..
الإنجاز الدولي والإقليمي بالمساهمة الفاعلة في رفع علم البلاد على المستوى الإقليمي والدولي..
الأثر السلوكي والقيمي: أن يكون قدوة في القيادة، الروح الرياضية، والالتزام..
الأسطورة لا يُقاس بموهبته فحسب، بل بإرثه الأخلاقي خارج وداخل الملعب..
في المملكة العربية السعودية، حيث تشتد المنافسة وتتصاعد حمى الشغف الكروي، يتحول هذا اللقب السامي إلى ساحة معركة إعلامية وجماهيرية ضارية وصراع « تيجان » حيث تذوب المعايير في بوتقة التعصب..
هنا، تُعلّق الأرقام والمعايير المنطقية على مشجب الانتظار، وتسيطر قوة العاطفة الجارفة ونداء التعصب الرياضي على دفة الحوار..
إننا نشهد يوميًا حربًا باردة من المقارنات غير المتكافئة بين نجوم كبار، يستحق كل منهم التقدير والاحترام..
لكن عندما يدخل عماء الانتماء إلى المعادلة، تصبح المقارنات أشبه بـ مجالس المزايدات لا تحكيم العقول..
فنجد مشجعًا يُقزِّم إنجازات لاعب عملاق بحجة ولائه لنجم فريقه، وآخر يرفع من شأن نجمه بشكل هستيري متجاهلًا معايير الاستمرارية أو الأثر الدولي..
يتحول النقاش الفني الرصين إلى سجال عقيم، ويصبح الهدف ليس إظهار الحقائق، بل الانتصار لقناعة موروثة ومُغلَّفة بالهوى..
إنه لمن المؤسف أن نرى تضحية بالإرث التاريخي على مذبح التنافس اللحظي. فكل نجم وطني لامع هو قيمة مضافة للمشهد الكروي السعودي ككل. عندما نُصر على تنصيب أسطورة واحدة بـ معايير مزدوجة تحكمها الميول، فإننا نظلم باقي القامات ونُشوّه الإطار العام للمجد..
إن محبة النجم والوفاء له هو حق طبيعي لكل مشجع، لكن يجب أن نتذكر أن ميزان الأسطورة لا يرتجف بتصفيق الحناجر، بل يتزن بـ ثقل الإنجازات ودوام التأثير…
ولكي نجعل من هذا النقاش فرصة لتعظيم قيمة الوفاء الرياضي ونداء لمحكمة الإنصاف، لا أداة لهدم رموز الفرق الأخرى..
فلا بد أن الأساطير تُصنع لتُلهم، لا لتُفرِّق..
دعوا الأرقام تتحدث، وليرتفع صوت المنطق فوق ضجيج التعصب..
وفي عالم كرة القدم، لا تقتصر المتعة على الـ 90 دقيقة داخل الملعب، بل تمتد لتشمل الإرث والأسطورة..
كل نادٍ عريق يفخر بنجومه الذين تخطت إنجازاتهم مجرد الأرقام، ليصبحوا رموزًا خالدة..
لكن، للأسف، ظهرت ظاهرة باتت تُهدد جوهر تقدير العظمة وهي المقارنة القسرية والتعصبية بين الأساطير اللعبة..
هذه الظاهرة، التي تتغذى على شغف الجماهير، وتُضخَّم بدعم لوجستي من بعض الإعلاميين المتعصبين، تُحول الاحتفاء بالإرث إلى ساحة معركة رقمية وبيانية..
الهدف المعلن هو «تحديد الأسطورة الحقيقية» و«كشف زيف الآخر»، بينما الهدف الخفي هو هدم رمز الفريق المنافس أو التقليل من إنجازات نجم تاريخي لمجرد أنه ارتدى قميصًا آخر..
إن الإصرار على وضع نجمين عظيمين على ميزان واحد، ومحاولة إثبات أن أحدهما «لا يستحق» لقب الأسطورة بينما الآخر هو «الحقيقي» الوحيد، هو إجحاف بحق التاريخ والجهد..
العظمة في كرة القدم متعددة الأوجه وقد يتميز نجم بالمهارة الفردية التي لا تُضاهى، ويتميز آخر بذكائه التكتيكي وقيادته للفريق، ويتفوق ثالث في عدد الألقاب والإنجازات الجماعية وكل منهم نحت اسمه في الصخر بطريقته الفريدة..
إن تقدير النجم الأسطورة يجب أن ينبع من الاحتفاء بإنجازاته الفردية والجماعية، والتأثير الذي أحدثته في اللعبة وناديها، وليس من مقارنتها بنجم آخر عظيم..
اللعبة أكبر من فريق واحد، والتاريخ يتسع لجميع العظماء والنجوم البارزين الذين حفروا أسماءهم كأساطير ..
حين نركز على تمجيد أبطالنا دون المساس بعظمة الآخرين، فإننا نرفع مستوى الحوار الكروي ونحافظ على قدسية الإرث الكروي للأجيال القادمة..
قشعريرة
في خضم التنافس الرياضي المحتدم، ومع تتابع الأخبار الكبرى، قد تمر الإنجازات الصغيرة نسبيًا بهدوء يكاد يصل إلى حد التجاهل..
وهذا ما حدث للأسف الشديد مع المنتخب السعودي تحت 17 عامًا، الذي توِّج مؤخرًا ببطولة الخليج بعد فوزه المستحق على نظيره الإماراتي بهدفين نظيفين..
إنجازٌ لا يمثل مجرد لقب إقليمي، بل هو بذرة أمل ومؤشر على جودة العمل الفني والتخطيط في قواعد الكرة السعودية..
لقد عاد هؤلاء الفتيان بلقب غالٍ ومهم، مؤكدين تفوقًا وموهبة صاعدة تستحق أن تكون واجهة المستقبل..
ومع ذلك، كان التفاعل الإعلامي مع هذا الإنجاز باهتًا وخجولًا..
تم تسليط الضوء عليه «على مضض» في البرامج الرياضية، وكأنه خبر ثانوي يجب التخلص منه سريعًا للعودة إلى صخب القضايا الكروية المعتادة..
الإنجاز لم يأخذ حقه الأدبي والإعلامي الذي يتناسب مع حجم التتويج وأهميته في بناء جيل جديد..